منذ أكثر من 6 سنوات، وتحديدا في فبراير/شباط 2018، نشر مركز أبحاث إسرائيلي ورقة بعنوان “كيف يستعد الجيش الإسرائيلي لحرب متعددة الجبهات؟”، تضمنت إشارة إلى أن تقديرات أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية لا تشمل توقعا بالتعرض لهجوم في المستقبل القريب.

وكما نعلم اليوم، فقد كان يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، عنوانا للفشل الاستخباراتي الذي ظهرت نتائجه ذلك اليوم.

اقرأ أيضا

list of 2 items

list 1 of 2

رغم القوة الغاشمة لماذا يشعر الإسرائيلي دائما بالهزيمة؟

list 2 of 2

في مواجهة “ثاد” كيف تخطط إيران لاختراق الدفاعات الجوية الإسرائيلية؟

end of list

لكن اللافت هو ما أوردته تلك الورقة عن احتمالية أن يتسبب حدث متفجر وغير متوقع على جبهة واحدة؛ في سلسلة من الأحداث الصعبة على جبهات قتال متعددة، وأوصت بمواصلة العمل على تحسين فعالية القتال في مسارح متعددة متزامنة، لأن من شأن ذلك أن يشكّل أهمية بالغة في بقاء إسرائيل.

قبل ذلك بأكثر من عامين (في أغسطس/آب 2015)، نشر رئيس هيئة الأركان الإسرائيلية الأسبق، غادي آيزنكوت، وثيقة بعنوان “إستراتيجية الجيش الإسرائيلي”، وهي نسخة مختصرة وغير سرية من محاولة أكثر شمولا لإنتاج خطة خمسية، تحدد البيئة الإستراتيجية والعملياتية لإسرائيل، إضافة إلى المبادئ الأساسية التي توجّه أعمالها العسكرية.

وكان من أبرز ما تناولته تلك الوثيقة، إعداد الجيش الإسرائيلي لسلسلة من الحروب المتزامنة على جبهات عدة.

آيزنكوت أعاد تكرار رؤيته في يناير/كانون الثاني 2018، خلال خطاب ألقاه بالمركز المتعدد التخصصات في هرتسليا، حين حدد ما أسماها الجبهات الخمس التي تشكل تهديدًا لأمن إسرائيل، مشيرًا إلى أن إيران مظلة قوية تحوم فوق هذه الجبهات، وأن لها يدا في أكثر من جبهة منها.

المعنى ذاته صاغه رئيس الوزراء الحالي بنيامين نتنياهو في سبتمبر/أيلول الماضي أثناء خطابه أمام الأمم المتحدة، حيث ذكر أن قواته تحارب على 7 جبهات مختلفة (غزة والضفة الغربية إضافة إلى إيران وحلفائها في لبنان واليمن والعراق وسوريا)، مضيفًا جبهتين أخريين على حسبة آيزنكوت، مما يعبّر عن نجاح إسرائيل في اكتساب الأعداء، كما يعكس شعورها المزمن بالاضطهاد والتهديد وعدم قبولها في المنطقة.

عقيدة الخوف

“العالم لديه العديد من الصور لإسرائيل، لكن إسرائيل لديها صورة واحدة فقط لنفسها: صورة شعب في طريقه إلى الزوال”

  • الفيلسوف اليهودي شمعون رافيدوفيتش

يُعد هذا الشعور أحد مفاتيح فهم التناقض بين الدعوة إلى تعزيز فعالية القتال على جبهات متعددة، وبين الاطمئنان أو “التراخي” الاستخباراتي الذي سبق طوفان الأقصى، نظرًا لأن دعوة آيزنكوت الرامية إلى إعداد الجيش لمواجهة محتملة على مسارح متزامنة؛ وليدةُ شعور إسرائيل بامتداد التهديد من الدائرة الأولى (الجيران المباشرين) إلى دائرة أبعد تمثلها إيران وحلفاؤها.

شعور التهديد لم يسهم فقط في صياغة إستراتيجية الاحتلال الراهنة، بل كان مسؤولا بشكل أساسي عن بلورة عقيدته العسكرية منذ قيام دولته، إذ طالما نظر إلى معاركه بوصفها صراعا وجوديا مستمرًا، بما دفع بن غوريون إلى صياغة مبدأ دفاعي عام 1953 يستند إلى 3 ركائز أساسية هي: الردع والإنذار المبكر والقوة الهجومية.

أما الركيزة الأولى وهي الردع، فترتبط بإحباط أي تحرك عسكري ضد إسرائيل، وتتضمن أدواتها ضرورة الحفاظ على تفوق نوعي، إضافة إلى ميزة نفسية من خلال رسم صورة القوة التي لا تُقهر، بما يدفع أعداء إسرائيل إلى اليأس من جدوى القيام بعمل عسكري ضدها.

ويشير الإنذار المبكر، الركيزة الثانية، إلى ضرورة التفوق الاستخباراتي الإسرائيلي، بما يمنح الجيش صورة استباقية عالية الجودة عن أصول العدو وأنشطته وقدرته على شن ضربات دقيقة أو واسعة النطاق، نظرا لأن إسرائيل لا تستطيع الاحتفاظ بجيش كبير لفترة طويلة، وبالتالي فإن أمنها يعتمد على مزيج من قوة احتياطية وضرورة تلقي تحذيرات قبل وقت كافٍ من اندلاع حرب.

وأخيرًا، تعني القوة الهجومية -بحسب نظرة بن غوريون- نقلَ المعركة إلى أراضي العدو من خلال المبادرة أو القيام بضربات وقائية، أي إن الإستراتيجية الدفاعية يتم تنفيذها عبر الهجوم بغرض مضاعفة عامل الردع، بالإضافة إلى تقليل الإصابات بين المدنيين، وهو ما يمكن ربطه بدعوات الفرار والسفر إلى خارج البلاد، التي تتكثف في الداخل الإسرائيلي كلما تعرضت إسرائيل لهجوم من جهة ما.

بمعنى أن رغبة بن غوريون ربما كانت مبنية بالأساس على إدراكه أن إلحاق أي أذى بالمستوطنين من شأنه أن يدفعهم إلى الفرار والعودة إلى بلادهم التي جاؤوا منها، وهو ما يهدد مشروع إسرائيل من الأساس.

ولا تزال هذه المبادئ تشكل حجر الزاوية في عقيدة الدفاع الإسرائيلية، رغم أن العام الأخير يطرح شكوكا حول صلاحيتها، إذ يرى مراقبون أن خصوم إسرائيل استطاعوا استيعابها إلى درجة كبيرة والتعامل معها.

ومن أمثلة ذلك، فشل أجهزة الاستخبارات في توقع طوفان الأقصى الذي كسر أيضا أوهام الردع، بما دفع غادي آيزنكوت إلى القول بأن “الردع الأساسي لإسرائيل وصورتها كقوة لا تُقهر تلقى ضربة في 7 أكتوبر/تشرين الأول”، مما أدى إلى تغير النظرة إلى إسرائيل واستنتاج أن بالإمكان هزيمتها.

 

لولا أميركا.. والردع المتبادل

يرى الأستاذ المساعد في العلاقات الدولية بالجامعة العبرية في القدس، دانيال سوبلمان، أن الولايات المتحدة أدت دور الردع بدلا من إسرائيل في هذه المعركة، حيث التزمت بالتعبئة العسكرية والدبلوماسية كي لا يستغل حزب الله أو إيران ضعف إسرائيل، في الوقت الذي كانت فيه الأخيرة تكافح لاستعادة المدن والقرى التي سيطرت عليها حركة المقاومة الإسلامية (حماس).

ورغم أن الانتشار الأميركي الضخم في المنطقة أثر على حسابات خصوم إسرائيل، فإنه لم يتمكن من إلغاء الفكرة الجديدة المتكونة عنها، وأنها لم تعد قادرة على الدفاع عن نفسها بشكل مستقل أمام ما تسميه إسرائيل بـ”حلقة النار” الإيرانية التي باتت تطوّقها، بالإضافة لفصائل المقاومة الفلسطينية.

ويذهب سوبلمان إلى مدى أبعد، إذ يشير إلى أن مفهوم الردع الإسرائيلي تآكل قبل سنوات من ذلك، دون أن تشعر إسرائيل، نظرًا لأن حماس تحركت وفقا لمبدأ توماس شيلينغ الشهير، حين أدركت أن مراكمة المعدات العسكرية والاحتفاظ بمخزون احتياطي، من شأنه إجبار الاحتلال على الرضوخ لدبلوماسية العنف وتحقيق نوع من الردع المتبادل.

ويؤكد أن حماس استغلت قدراتها منذ عام 2018 لضرب وسط إسرائيل بوابل من الصواريخ لردع الأخيرة عن تجاوز عتبات معينة من التصعيد، بما فيها اغتيال نشطاء المقاومة أو الاستجابة غير المتناسبة لأنشطة حماس.

ويسوق سوبلمان من الوقائع ما يؤكد استخدام أعضاء “حلقة النار” الإيرانية آلية ردع مماثلة. من ضمن ذلك تهديد حزب الله اللبناني بحرب شاملة في عام 2022 واستهداف حقول الغاز الإسرائيلي حين أرادت إسرائيل استخراج الغاز من حقل كاريش المتنازع عليه، مما أسفر عن توقيع إسرائيل ولبنان اتفاقية بحرية بوساطة أميركية، لتحديد حدودهما البحرية الدائمة ومنطقتهما الاقتصادية الخالصة، وتنظيم حقوقهما في التنقيب عن الغاز في شرق البحر الأبيض المتوسط.

أما في عام 2023، فامتنعت إسرائيل عن إزالة خيمة أقامها حزب الله على الجانب الإسرائيلي من الحدود نظرا لقلقها من التصعيد، بينما أدت هجمات الحزب التي شنها باستخدام الصواريخ والطائرات المسيرة منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، إلى إجلاء حوالي 70 ألف إسرائيلي من مستوطنات الشمال، كما أجبرت الاحتلال على الاحتفاظ بعدد كبير من قواته على الحدود الشمالية لمواجهة التهديد.

وفي اليمن، يرتبط ردع الحوثيين باستهداف سفن تعود ملكيتها إلى إسرائيل، أو سفن داعمة لها، أو تلك التي تستخدم موانئ إسرائيلية. كما أدى استهداف ميناء إيلات إلى إغلاقه كليا في يوليو/تموز الماضي.

أما في العراق، فنفذ الحشد الشعبي الموالي لإيران 170 هجوما ضد قواعد أميركية داخل العراق وسوريا منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، على خلفية دعم واشنطن لإسرائيل. كما استهدفوا منطقة الجولان السوري المحتل بالمسيرات في أكتوبر/تشرين الأول الجاري، مما أدى إلى مقتل جنديين إسرائيليين وإصابة 25 آخرين، وفق إذاعة الجيش الإسرائيلي، التي أعلنت عن فشل الدفاعات الجوية في رصد المسيّرة العراقية، بما تسبب في عدم تفعيل الإنذارات.

وتشير التقديرات إلى أن حزب الله يملك ما يصل إلى 150 ألف صاروخ وقذيفة، أغلبها صواريخ غير موجهة أرض-أرض مثل “الكاتيوشا” التي يتراوح مداها بين 4 و40 كلم، إضافة إلى صواريخ “رعد” و”فجر” التي تتميز بمدى أطول وحمولة متفجرة أكبر، حيث يصل مداها إلى 75 كلم.

ويمكن لهذه الصواريخ أن تهدد أنظمة الدفاع الجوي الإسرائيلي حال إطلاقها بأعداد كبيرة، لكن ما يثير قلق إسرائيل هو الصواريخ الدقيقة التي كشف الحزب عن امتلاكها في عام 2018. كما كشف في عام 2023 عن منصة مزدوجة للصواريخ الموجهة سميت “ثأر الله”، وهي منظومة أسلحة مضادة للدروع تتألف من منصتي إطلاق مخصصة لإطلاق صواريخ “الكورنيت”، وللمنظومة قدرة على إصابة الأهداف بدقة وتدميرها.

وعن الترسانة اليمنية، يمتلك الحوثيون تشكيلة متنوعة من الطائرات المسيرة، مثل “صماد” و”عيد”، التي يتراوح مداها بين 2000 و2500 كلم ويمكنها بلوغ تل أبيب، إضافة إلى مجموعة من الصواريخ البالستية متوسطة المدى مثل “طوفان” الذي يصل مداه إلى 1900 كلم، مع رأس حربي يزن طنا واحدا. كما يمتلك الحوثيون تشكيلة من صواريخ كروز بعيدة المدى، منها نسخة “قدس” التي يصل مداها إلى 1700 كلم ويمكنها الطيران على ارتفاعات منخفضة لتجنب كشفها بواسطة الرادار.

الطيران فوق “حلقة النار”

يعني ذلك أن المخزون العسكري الذي يتمتع به محور المقاومة، قادر على استهداف عمق الاحتلال مهما بادر الأخير إلى توجيه ضربات وقائية، بما يضع على المحك؛ مبدأ بن غوريون القائل بضرورة نقل المعركة إلى أرض العدو، ويؤدي إلى فرض واقع مغاير لمفهوم الأمن الذي تبناه جيش الاحتلال منذ عام 1953.

ومع ذلك، يرى العسكريون الإسرائيليون أن الردع لا يزال العنصر الحاسم في وجود الدولة، ومن شأن الردع الفعّال أن يمنع الخصوم عن المبادرة بهجمات استفزازية. لكن معضلة تل أبيب الحالية تتمثل في اضطرارها لتوجيه قوتها إلى مسارح عدة، وهو ما عبّر عنه وزير دفاع جيش الاحتلال يوآف غالانت بقوله: “نعمل في كل مكان من أجل توضيح أن ثمن تهديدنا سيكون باهظا”.

وتعيد وثيقة آيزنكوت (المذكورة سالفا) تعريف مفهوم الردع وفقا لما أسمته “تنوّع التهديد”، أي الجبهات المتعددة، حيث افترضت الوثيقة أن الجيش الإسرائيلي سيخوض سلسلة طويلة من الصراعات المسلحة مع جهات فاعلة من غير الدول (مثل حماس وحزب الله اللبناني).

ووفقا لتصور الوثيقة، فإن أحد الحلول يتمثل في بناء ردع “تراكمي” عبر سلسلة من الانتصارات العسكرية الواضحة، بمعنى أن الردع في شكله الجديد يتطلب تعزيزا مستمرا، ولهذا ابتكر جيش الاحتلال الإسرائيلي مفهوم “الحملة بين الحروب”، وهو مفهوم يشير إلى الأنشطة “السرية والعلنية” التي يقوم بها الجيش خارج أزمنة الحرب، أي بشكل روتيني، والتي تهدف إلى إحباط التهديدات الناشئة المعادية.

وبالدرجة الأولى، يعتمد جيش الاحتلال في ذلك على تفوقه الجوي، إذ بحسب قائد القوات الجوية الإسرائيلية السابق، عمير إيشيل، فإن سلاح الجو لا بد أن يكون قادرا على التعامل مع 3 قطاعات رئيسية في وقت واحد، وهي: الشمال حيث لبنان وسوريا، والجنوب في غزة، إضافة إلى الشرق، أي إيران.

إيران تستعرض أسلحة جديدة قبيل زيارة بزشكيان إلى نيويورك 1(الصحافة الإيرانية)

ويرى إيشيل أن قوة إسرائيل الجوية هي الأكثر مرونة وعمومية، كما تُعد الميناء الأول لإسرائيل في حرب متعددة الجبهات، نظرا لغياب أي قوة عسكرية أخرى قادرة على الرد بسرعة مماثلة.

وبالفعل، تمتلك إسرائيل -بفضل الدعم الأميركي- أفضل ترسانة جوية في المنطقة، فهي أول دولة خارج مجموعة التطوير تحصل على مقاتلة “إف-35” الشبحية، التي تعد الأكثر تطورا في العالم. كما وفرت واشنطن لحليفتها نسخة خاصة من المقاتلة “إف-15″، التي تتميز بأنظمة طيران وقدرات حرب إلكترونية أكثر تقدما عن سائر النسخ المباعة.

في المقابل، تضع واشنطن قيودًا على طائراتها المباعة إلى حلفائها الآخرين في المنطقة، فيما يتعلق بالحصول على الحزمة الكاملة لهذه المقاتلات، وتشمل هذه القيود حظر تزويد المقاتلات بالأسلحة الإستراتيجية والأسلحة التي تتجاوز مدى الرؤية البصرية، وذلك بهدف ضمان تفوق إسرائيل النوعي على بقية جيرانها.

ونظرا لأن سلاح الجو الإسرائيلي يفتقد وجود قاذفات بعيدة المدى، جرى تعديل أسطول من طائرات “بوينغ 707” بحيث تُستخدم كناقلات للتزود بالوقود، مما يمكّن مقاتلات الاحتلال من الوصول إلى إيران أو اليمن لتنفيذ ضربات جوية دقيقة. كما تمتلك إسرائيل طائرات مسيرة من طراز “هيرون” قادرة على التحليق لأكثر من 30 ساعة، وهو ما يكفي لتنفيذ عمليات بعيدة المدى. ويعني ذلك أن الاحتلال قادر من خلال قواته الجوية على استهداف كافة أطراف حلقة النار الإيرانية.

إلى جانب ذلك، تعمل ترسانة أميركا الجوية الحاضرة في المنطقة على تخفيف العبء عن سلاح الجو الإسرائيلي، حيث شاركت في استيعاب الهجوم الإيراني الأول في أبريل/نيسان الماضي. وتشير التقارير إلى أن مقاتلات “إف-15” الأميركية شاركت في إسقاط قرابة 50% من المُسيرات التي استخدمتها طهران في هجومها، كما قصفت القوات الأميركية أهدافا في اليمن وسوريا والعراق مطلع العام الحالي.

وقد بررت الإدارة الأميركية ذلك بقولها إن المنشآت المستهدفة يستخدمها الحرس الثوري الإيراني و”مليشيات تابعة له” لمهاجمة القوات الأميركية.

يعني ذلك أن واشنطن قد تستمر في تأدية دور الردع نيابة عن الاحتلال في 3 جبهات، لكنها لن تتدخل في الوقت الحالي بشكل مباشر أمام إيران أو حزب الله. ويرى مراقبون أن تصعيد إسرائيل المتتابع وأعمالها العدوانية الموجهة إلى إيران، هدفها إخراج طهران من حظيرة “ضبط النفس” ودفعها إلى الرد بشكل متهور، وهو ما تحتاجه إسرائيل لوضع أميركا في مواجهة مباشرة مع إيران.

في المقابل، يشير زميل مركز دراسات الأمن بجامعة جورج تاون، بول بيلار، إلى أن التصعيد الإسرائيلي وفتح جبهات قتال متعددة؛ وسيلة مقصودة من جانب إسرائيل للخروج من مأزق غزة، ويشتمل على عنصرين: الأول؛ استفزاز إيران ودفعها إلى الرد، بما يمكّن إسرائيل من تقديم نفسها في صورة المدافِعة وليس المُخالِفة، وبذلك تدفع النقاش بعيدًا عن الدمار الذي تُلحقه بقطاع غزة والذي يُعرّضها للمساءلة أمام المجتمع الدولي. أما العنصر الثاني فيتمثل في زيادة فرص تورط الولايات المتحدة في مواجهة مباشرة أمام إيران.

وهن على الأرض

وعلى مستوى آخر، أجرى الاحتلال تطويرات عدة خلال السنوات الماضية لتحسين جاهزية قواته البرية وإعدادها لاحتمالية قتال متعدد متزامن، كما أنشأ ألوية مدرعة خفيفة لنشرها على الحدود مع مصر والأردن، وذلك بغرض إتاحة الفرصة لقوات القتال العملياتية بتكثيف مشاركتها في المناورات البرية ورفع جاهزيتها القتالية.

إضافة إلى ذلك، تضمنت إستراتيجية الاحتلال إنتاج ناقلات الجنود المدرعة والدبابات الحديثة بكميات كبيرة، وذلك لتلبية المتطلبات في حال نشوب حروب متزامنة. وتشير المصادر إلى أن زيادة الإنتاج ترتبط بتوقع معدلات خسارة، نظرا لانتشار قاذفات “آر بي جي” الخارقة للدروع والصواريخ المضادة للدبابات على نطاق واسع في غزة ولبنان.

وتعد ناقلة الجنود المدرعة “إيتان” أحدث ما أنتجته إسرائيل لهذا الغرض، حيث تبلغ سرعتها 90 كلم/ساعة، مما يمنحها القدرة على القفز من جبهة قتال إلى أخرى.

ومع ذلك، تبرز التقارير تدمير أكثر من 1100 آلية إسرائيلية على يد رجال المقاومة في غزة وحدها منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، منها 962 دبابة من إجمالي مخزون الجيش الإسرائيلي البالغ قرابة 2200 دبابة (أي نحو 44%). من ضمن ذلك، قيام كتائب القسام بتدمير مدرعتين إسرائيليتين من طراز “إيتان”، في كمين بمخيم الشابورة في رفح خلال يونيو/حزيران الماضي.

وإذا ما كان الاحتلال قد خسر قرابة نصف مخزونه من الآليات البرية في جبهة واحدة فقط، فإن ذلك يطرح شكوكا حول جاهزية قواته البرية، ويضعها في مرتبة أدنى كثيرا مقارنة بقدراته الجوية.

متاهة غزة وإيران

بغض النظر عن خسائر جيش الاحتلال البرية في غزة، فإن أداءه الكلي في القطاع منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، يثير شكوكا في قدرته على التعامل بمفرده مع حجم التهديدات التي تفرضها “حلقة النار” الإيرانية، حيث أعلن جيش الاحتلال مؤخرا أن “تطهير غزة من حركة حماس ربما يستغرق عامين آخرين”، بما دفع مراقبين إلى القول بأن إسرائيل تركت في غزة عملا غير مكتمل وذهبت مبكرا إلى الشمال.

ويشير المدير السابق لإستراتيجية الأمن الإسرائيلي والعقيد المتقاعد من سلاح الجو، غور لايش، إلى أن حماس لا تزال قائمة وتعمل بعد مضي عام على الحرب، رغم أن الجيش الإسرائيلي توغل إلى معظم أجزاء القطاع ودمر عددًا لا يحصى من المباني والبنى التحتية. ومع أن حماس غير قادرة على شن ضربات عسكرية كبيرة في الوقت الحالي كما يقول غور لايش، فإن السؤال المطروح هو: هل سيتفاجأ أحد إذا ما أطلقت الحركة صاروخا باتجاه إسرائيل بعد إعلان الأخيرة النصر؟.

وحتى بين أشد المتفائلين في معسكر إسرائيل، والذين يعتبرون استقواءه على غزة نجاحا عظيما، فهُم ينظرون إلى إمكانياته بعين الريبة فيما يخص مواجهة حلف إيران، إذ يرى زميل معهد يوركتاون في واشنطن، غابرييل إليفتريو، أن نجاح إسرائيل في غزة يجب وضعه في سياق حلقة النار الإيرانية الواسعة التي تحيط بها، والتي لا تزال مواردها -مجتمعةً- هائلة، نظرا لأن حزب الله اللبناني ربما يعاني على مستوى الفعالية التنظيمية بعد اغتيال قادته، لكن لا يوجد أحد لا يمكن تعويضه، كما لم يتم استهداف قوته القتالية بشكل مؤثر بعد، بما يشمل مقاتليه وترسانته من الذخائر الموجهة عالية الدقة وبعيدة المدى.

إضافة إلى ذلك، قد يستفيد الحزب من البنية الأساسية القوية التي يديرها الحرس الثوري الإيراني ومن مقاتليه في سوريا المجاورة، أو حتى في العراق إذا اقتضت الحاجة، إذ قطعت إيران شوطا كبيرا في خطتها لنشر الصواريخ والطائرات المسيرة والأسلحة المتطورة في محيط إسرائيل، وتحويل الأراضي المحتلة من الشمال إلى الجنوب؛ إلى ساحة معركة حقيقية.

على جانب آخر، يبقى برنامج طهران النووي على رأس مخاوف إسرائيل، بما قد يشكله نجاح إيران في امتلاك رادع نووي من خلق توازن رعب، على غرار حالة الهند وباكستان، بينما لا تمتلك إسرائيل القدرة على شن هجوم مباشر على مشروع إيران النووي من دون دعم أميركي، نظرا لأن المنشآت البحثية النووية المحصنة تتطلب استخدام أنواع محددة من القنابل الخارقة للدروع مثل “جي بي يو 57″، وهي قنابل مصممة خصيصًا لهذا النوع من المهام، ولا يمكن إطلاقها إلا بواسطة قاذفات تمتلكها الولايات المتحدة حصرا، مثل القاذفة “بي 2 سبيريت”.

اجتماع هذه العوامل يبعد إسرائيل عن تحقيق هدفها النهائي من خوض حرب متعددة الجبهات، ويضعها في رحى آلة استنزاف مستمر. فإذا ما كان هدف إسرائيل من أي حرب -وفق مبادئ بن غوريون- هو إجبار العدو على وقف القتال من موقع قوة إسرائيلي، بعد تجريده من قدراته ودوافعه القتالية، فإن إسرائيل لم تتمكن من تدمير حماس وغزة بصورة نهائية، في حين أن توجيه ضربة قاضية لحزب الله اللبناني مهمة أصعب، ولن تتمكن أذرعها من إيقاف الغضب في اليمن أو في العراق، وربما لا يكون تحقيق نصر عسكري حاسم على إيران أمرا ممكنا في المدى القريب.

شاركها.
اترك تعليقاً

2024 © السعودية خبر. جميع حقوق النشر محفوظة.