بينما يواصل جيش الاحتلال عدوانه على قطاع غزة لتحقيق إنجاز عسكري يتمثل في تقويض جزء مهم من بنية المقاومة الفلسطينية وقبل ذلك بنية حزب الله من خلال عدوانه على لبنان يلحظ عدد من الباحثين والكتّاب الإسرائيليين والغربيين عجزا إسرائيليا عن تحويل الإنجاز العسكري إلى مكاسب سياسية، بل إن ما يحصل هو العكس حتى الآن، إذ تتراجع المكانة السياسية الإقليمية لإسرائيل.

ويظهر هذا الأمر جليا في ملفات المفاوضات النووية الأميركية الإيرانية التي لا تجد إسرائيل فيها لنفسها حق الفيتو ويظهر تقديم الأولويات الأميركية فيها على الحسابات الإسرائيلية، كما اتخذت العلاقات السعودية الأميركية مسارا غير مرتهن لملف التطبيع، بالتزامن مع تمدد النفوذ التركي في الإقليم.

وشكّل توصل إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى اتفاق لوقف إطلاق النار مع الحوثيين دون شمول إسرائيل به صدمة لحكومة الاحتلال، في مؤشر على نهج جديد لتحميلها أعباء الدفاع عن نفسها، بما تشمله من أثمان سياسية واقتصادية وعسكرية.

كما لا يخلو استثناء إسرائيل من جولة ترامب المرتقبة في المنطقة من مغزى بشأن المدى الذي وصل إليه التوتر بين الطرفين.

ويضاف هذا إلى الأثر التراكمي لتراجع الشرعية الدولية لإسرائيل، وتراجع التأييد الشعبي لها في الولايات المتحدة وأوروبا، وانعكاس ذلك على السلوك الرسمي تجاهها في العديد من الدول الأوروبية.

ومن شأن استمرار إسرائيل على الرهان على الحسم العسكري أن تستمر مفاعيل هذه الاتجاهات الإقليمية والدولية، وأن تتشكل بنية تزيد القيود السياسية والأمنية عليها.

ويمكن تفصيل ملامح هذه الاتجاهات على النحو التالي:

  • استفزاز المحيط الإقليمي

أدت النزعة التوسعية لإسرائيل إلى تصاعد المخاوف الإقليمية والتحذيرات الدولية من مغبة ذلك على إسرائيل والمنطقة.

وفي هذا الصدد، أشارت دراسة حديثة إلى أن أحداث 7 أكتوبر أدت إلى تبادل في الأدوار الإستراتيجية بين إيران وإسرائيل.

وتقول الدراسة -التي أعدها الباحثان في مجلة السياسة الدولية البريطانية روب بينفولد وكلايف جونز وأنوشيرفان إيتشامي- إن إسرائيل أصبحت قوة “تنقيحية” أو مراجعة، أي أنها تسعى إلى تغيير الوضع السائد في المنطقة من خلال التوسع العسكري، لاتضاح فشل سياسة الردع التي كانت تتبعها سابقا، في حين تأخذ إيران إستراتيجية الحفاظ على الوضع القائم.

وفي حين تحقق إسرائيل -وفقا للدراسة- إنجازات عسكرية فإن التاريخ يظهر أن إستراتيجيتها الكبرى معيبة وتعرضها لأخطار كبرى مستقبليا، إذ إن “احتلال الأراضي لدفع القتال بعيدا لا يفشل في حل الصراع فحسب، بل يؤدي أيضا إلى تفاقمه”.

وتتابع الدراسة أن إدارة الرئيس الأميركي السابق جو بايدن زعمت أن الولايات المتحدة تعلمت هذه الدروس في العراق وأفغانستان، وناشدت إسرائيل ألا ترتكب الأخطاء نفسها.

ومع ذلك، لا يحتاج الإسرائيليون إلى النظر إلى هذا الحد، فهم بحاجة فقط إلى الرجوع إلى احتلالهم السابق لغزة ولبنان لمعرفة ما قد يحمله المستقبل.

ويشير الباحثان إلى أن احتلال إسرائيل في لبنان وحكمها الوحشي وغير الكفء هو ما أدى إلى نشوء حزب الله، وفي النتيجة فقد “كانت فتوحات إسرائيل الإقليمية وميلها إلى إغراق نفسها في احتلالات غير محددة هي التي غذت إستراتيجية إيران الكبرى وجعلتها ناجحة للغاية حتى وقت قريب، وهذا يشير إلى أن نجاحات إسرائيل الأخيرة قد تكون في الواقع سبب هلاكها في النهاية”.

وفي سياق متصل، أشارت دراسة للباحثة الكورية سو يون آن إلى أن هيكل التحالفات الأمنية في المنطقة والخليج العربي يتغير بفعل الحرب الإسرائيلية على غزة، ففي حين كانت إسرائيل بصدد توثيق وتوسيع اتفاقات التطبيع وترسيم تحالف يهدف إلى الشراكة في مواجهة إيران فقد أدت جرائم الاحتلال في غزة إلى إثارة مشاعر العداء الشعبية تجاهه، مما رفع تكلفة التطبيع ومخاطره، ودفع دول المنطقة إلى سياسة أكثر حذرا في التعامل مع إسرائيل.

واستندت الدراسة إلى نظرية “المجمع الأمني الإقليمي” لباري بوزان، والتي تفيد -لدى تطبيقها على الواقع الإقليمي- بأن العلاقات بين الدول العربية وإسرائيل وإيران تشكلت بفعل التهديدات الأمنية المحسوسة والتصورات الذهنية لهذه التهديدات، وترتبط هذه التصورات بشكل وثيق بالعواطف الجماعية والثقافة المجتمعية، ولا يمكن أن تنفصل عنها بحال.

وفي حين نشأت الجامعة العربية وتصاعدت القومية العربية بدافع من مواجهة الاستيطان اليهودي في فلسطين ثم بنشوء دولة الاحتلال عام 1948، واستمر هذا الرابط في محطات، من أبرزها المشاركة العربية في حرب 1973.

في المقابل، فقد أدت الثورة الإيرانية ثم الربيع العربي إلى تزايد مخاوف العديد من الدول العربية من إيران وجماعة الإخوان المسلمين وحركة حماس، مما أسهم في دفعها إلى مسار التطبيع، لكن جرائم الحرب الإسرائيلية في الحرب الحالية أدت إلى “تصاعد الغضب الشعبي بشكل حاد، وبدأت الأنظمة في المنطقة تشعر بتأثير هذا الغضب على استقرارها الداخلي، مما يهدد بإثارة احتجاجات شعبية أوسع”.

  • المفاوضات النووية الإيرانية

يظهر تغير في السلوك الأميركي تجاه التفاوض مع إيران بشأن الملف النووي والصاروخي والسياسة الإقليمية، إذ تعطي واشنطن الأولوية لمصالحها الخاصة، ولا تخضعها لحسابات حلفائها التقليديين، سواء الأوروبيون أو إسرائيل، مما يثير حفيظة حكومة بنيامين نتنياهو.

ففي مقابلة للرئيس الأميركي مع مجلة تايم بتاريخ 26 أبريل/نيسان 2025 أكد ترامب أنه لن ينجر إلى حرب مع إيران بسبب رئيس حكومة إسرائيل، مضيفا “لكن في حال تعثّر المساعي الدبلوماسية فأنا على استعداد لاتخاذ الخطوة بنفسي وقيادة المواجهة”.

وبشأن تقارير سابقة عن منعه إسرائيل من ضرب إيران، قال “هذا غير صحيح، لم أوقفهم، لكنني لم أسهّل لهم الأمر أيضا، كنت أفضّل التوصل إلى اتفاق بدلا من القصف، وقلت إنني لا أمانع، لكنني كنت سأترك القرار النهائي لهم”.

ويمكن تلخيص الخلاف في الرؤية والسلوك الأميركي والإسرائيلي في هذا الملف، وفقا لتحليل للباحثتين في مشروع قضايا الأسلحة النووية بمركز الدراسات الإستراتيجية والدولية بواشنطن دورين هورشغ وبيلي شيف على النحو التالي:

  • في حين ترى إسرائيل في البرنامج النووي الإيراني تهديدا وجوديا ترى فيه الولايات المتحدة تهديدا إستراتيجيا يمكن احتواؤه من خلال مزيج من الدبلوماسية والردع.
  • وفي حين تفضل إسرائيل العمل العسكري الوقائي وترى أن الضغوط وحدها والاتفاقيات الجزئية غير كافية يفضل ترامب الدبلوماسية المقرونة بالتهديد باستخدام القوة لردع إيران دون الاضطرار إلى خوض حرب معها.
  • وفي سبيل ذلك تعتمد إدارة ترامب سياسة الضغط الاقتصادي الأقصى مع التفاوض والحشد العسكري، في حين تراهن إسرائيل على الضربات السرية والعلنية لمختلف جوانب البرنامج النووي والصاروخي الإيراني.

وبفعل هذا الاختلاف في المواقف يمتنع ترامب عن إعطاء إسرائيل ضمانة بالمشاركة معها في أي مواجهة مع إيران إذا انفردت باتخاذ قرار كهذا، وهو ما يجعل الخيارات العسكرية الهجومية والدفاعية لإسرائيل أكثر صعوبة وتعقيدا، وفقا لتقرير لوكالة رويترز في 19 أبريل/نيسان الماضي.

ولخص الكاتب الإسرائيلي عوديد عيلام في مقال له في صحيفة “يسرائيل هيوم” بتاريخ 29 أبريل/نيسان الماضي 2025 المخاطر المترتبة على إسرائيل جراء هذا المسار للإدارة الأميركية بالتالي:

  • مواصلة التطور النووي لإيران، وزيادة سهولة تصنيعها أسلحة نووية لاحقا.
  • تعزيز محور المقاومة بفعل رفع العقوبات وضخ المال إلى إيران، مما سيسهم في إعادة بناء قدرات حلفائها، كحزب الله والحوثيين وحركة حماس.
  • انهيار الردع الإسرائيلي، إذ سترى الدول العربية “المعتدلة” في إسرائيل لاعبا ضعيفا لا ينجح حتى في التأثير على حليفته الكبرى.
  • عزلة سياسية محتملة إذا عملت إسرائيل عسكريا أو سياسيا بدون إسناد أميركي.
  • بقاء النظام الإيراني وتجديد شرعيته، و”تعزيز دعايته بأن الإصرار على المبادئ يمكنه إخضاع الغرب”.

وفي سياق متصل، تجاهل ترامب التنسيق مع إسرائيل في مفاوضات وقف إطلاق النار مع الحوثيين على الرغم من كونهم طرفا في المواجهة وسببا فيها.

وأفادت هيئة البث العام الإسرائيلية “كان 11” بأن إعلان الرئيس الأميركي بشأن وقف الهجمات على الحوثيين فاجأ المسؤولين الإسرائيليين، وذكرت وسائل الإعلام الإسرائيلية أن المستوى السياسي في إسرائيل لم يبلّغ مسبقا بهذا الشأن قبل تصريحات ترامب.

علاقة الرياض وواشنطن

بفعل استمرار الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة وإدراك السعودية والولايات المتحدة صعوبة التوصل إلى اتفاق تطبيع فعلي في هذه الظروف تتقدم علاقة الطرفين مع التقليل من تأثير الموقف الإسرائيلي وشرط التطبيع على مسارها.

ونقلت وكالة رويترز في 8 مايو/أيار الجاري عن مصدرين مطلعين قولهما إن الولايات المتحدة لم تعد تطالب السعودية بتطبيع العلاقات مع إسرائيل كشرط للتقدم في محادثات التعاون النووي المدني، وذلك خلافا لما كان عليه الأمر طوال عهد الرئيس الأميركي السابق جو بايدن.

وأشارت الوكالة إلى أن “غضب الدول العربية تجاه الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة أوقف التقدم نحو اعتراف السعودية بإسرائيل”، إضافة إلى تمسك السعودية بأنها “لن تعترف بإسرائيل دون دولة فلسطينية”.

وكان وزير الطاقة الأميركي قد أشار إلى أن السعودية والولايات المتحدة “تسيران على المسار” نحو اتفاق نووي مدني حينما زار المملكة في أبريل/نيسان الماضي.

توسع النفوذ التركي

في حين تضطلع إسرائيل بالجهد العسكري الأكبر إقليميا يتمدد نفوذ تركيا بالاستفادة من الوقائع الجديدة، سواء على صعيد سوريا، والتوجهات السياسية المستجدة في دول الخليج والعراق.

وتتخوف إسرائيل من تمدد النفوذ التركي في سوريا، خصوصا في ظل الانسحاب الجزئي للقوات الأميركية منها، وكانت صحيفة نيويورك تايمز قد أوردت أن الولايات المتحدة بدأت في سحب مئات الجنود من شمال شرق سوريا.

ونقلت الصحيفة عن مسؤوليْن أميركييْن كبيريْن قولهما إن الجيش سيغلق 3 من قواعده التشغيلية الثماني الصغيرة، مما يخفض مستويات القوات إلى نحو 1400 من أصل ألفين.

بالمقابل، تداولت صحف إسرائيلية المزيد من المخاوف من هذا الانسحاب، ومنها:

  • تراجع النفوذ الأميركي في المنطقة.
  • تراجع الردع تجاه إيران بالتالي.
  • التأثير على التنسيق الأمني في جنوب سوريا.

كما يظهر التقارب التركي السعودي في ملف سوريا وملف التسلح، إذ برزت جهود الطرفين لتسويق النظام الجديد إقليميا، مع رفض الاعتداءات الإسرائيلية على الأراضي السورية بالتوازي مع التفاوض على صفقة تشتري بموجبها السعودية 100 طائرة تركية مقاتلة من الجيل الخامس “قآن” بقيمة 6 مليارات دولار، وفقا لما أوردته وسائل إعلام تركية في ديسمبر/كانون الأول الماضي.

في المقابل، تناقش إسرائيل منذ أشهر ضرورة الاستعداد لتصعيد محتمل مع تركيا في ضوء مخاوف متزايدة لدى تل أبيب من تحالف أنقرة مع الإدارة الجديدة بدمشق بعد سقوط نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد.

وأفادت صحيفة جيروزاليم بوست بأن لجنة “فحص ميزانية الأمن وبناء القوة” المعروفة بلجنة ناغل -على اسم رئيسها يعقوب ناغل- نبهت في تقريرها إلى خطر التحالف السوري التركي الذي ربما “يخلق تهديدا جديدا وكبيرا لأمن إسرائيل”، مشيرة إلى أن الأمر قد يتطور إلى شيء “أكثر خطورة من التهديد الإيراني”.

آفاق المستقبل

من ناحية، تحتفظ إسرائيل بتفوق عسكري نوعي في محيطها، كما تمكنت من استعادة جزء من قدرة الردع باستخدامها المفرط للقوة الخشنة، وعلى الرغم من الغضب الشعبي الغربي فإن العلاقات الرسمية مع حكومات الدول الغربية الكبرى ما زالت قوية، كما لم تتراجع الدول العربية عن مسار التطبيع عموما، وإن كانت بعض مفاعيله قد تعثرت مؤقتا.

ومن ناحية أخرى، عمقت الحرب تباعد المواقف بين إسرائيل والولايات المتحدة، ولم تتمكن تل أبيب من ترميم كامل لقدرتها على الردع، والتي كانت قد بنتها على عقود سابقة لضربة 7 أكتوبر/تشرين الأول، في حين تزداد قناعة أجيال جديدة في المنطقة والعالم بضرورة مواجهة العدوانية الإسرائيلية.

وتزداد شعبية مقاومة الاحتلال عالميا، وتتراجع صورة إسرائيل الأخلاقية في العالم، وتتعاظم الدعوات الشعبية لمقاطعتها، وتلاحقها المحاكم الدولية، مما يضعف قوتها الناعمة وتأييدها الدولي مع مرور الوقت.

وفي حال استمرار مسارها الحالي في غزة والمنطقة فإن من المرجح أن تستمر مفاعيل التقارب الإقليمي في سبيل مواجهة عدوانيتها وتوسعها، وتتخذ بعدا بنيويا طويل الأمد في تشكيل المنطقة، مما يجعل مفعول العنف والتوسع مرتدا عليها بأسوأ مما ترتجي وتتوقع.

شاركها.
اترك تعليقاً