في أعقاب سلسلة من الهجمات التي استهدفت ناقلات النفط والسفن التجارية في البحر الأسود، تعيش أنقرة حالة من الاستنفار المتزايد. هذه التطورات الخطيرة، التي امتدت نيران الحرب الروسية الأوكرانية إلى تخوم المياه التركية، دفعت الرئيس رجب طيب أردوغان إلى التحذير من خطر الانزلاق إلى مواجهة بحرية مفتوحة، واصفًا استهداف ناقلة نفط قبالة الساحل الشمالي بأنه “تصعيد مقلق”. يثير هذا الوضع تساؤلات حول مستقبل الملاحة في المنطقة وتداعياته على المصالح التركية المتشابكة.
تصاعد التوترات في البحر الأسود وتأثيرها على تركيا
شهدت الأيام الأخيرة سلسلة من الحوادث المثيرة للقلق في البحر الأسود، حيث اندلع حريق في الناقلة “كایروس” بعد انفجار قبالة ساحل كفكن، وتبعه نداء استغاثة من ناقلة النفط “فيرات” بعد تعرضها لهجوم. كما تم استهداف الناقلة “ميدفولغا-2” التي كانت تنقل زيت عباد الشمس. تشير المعطيات والتقارير الإعلامية إلى أن هذه الهجمات قد تكون من تنفيذ زوارق أو مسيرات بحرية أوكرانية، في إطار استخدام كييف لطائرات مسيرة لضرب ناقلات يعتقد أنها جزء من “أسطول الظل” الروسي. العثور على زورق أوكراني جرفته الأمواج إلى شواطئ طرابزون عزز من هذه المخاوف، مؤكدًا امتداد أدوات الحرب إلى محيط السواحل التركية.
الدبلوماسية والمصالح التركية المتوازنة
تواجه أنقرة الآن تحديًا دبلوماسيًا معقدًا. فبين كونها عضوًا في حلف شمال الأطلسي (الناتو) وتزويدها لأوكرانيا بالأسلحة، وعلاقاتها الاقتصادية الوثيقة مع روسيا وعدم انضمامها للعقوبات الغربية، تجد تركيا نفسها مضطرة للسير على حبل مشدود. سارعت وزارة الخارجية التركية إلى استدعاء السفير الأوكراني والقائم بالأعمال الروسي للتعبير عن قلقها العميق إزاء الهجمات التي طالت سفنًا مرتبطة بروسيا داخل منطقتها الاقتصادية الخالصة. وفي الوقت نفسه، وجهت أنقرة تحذيرًا علنيًا لجميع الأطراف بضرورة وقف استهداف السفن التجارية، في رسالة واضحة موجهة بشكل أساسي إلى كييف.
مقاربة أنقرة: إدارة التهديد والحفاظ على هامش المناورة
يرى الخبير الأمني بلال يوزغاتلي أن مقاربة أنقرة في البحر الأسود ترتكز على محورين رئيسيين: إدارة التهديد ميدانيًا بأقل قدر من الاحتكاك، وضبط الخطاب الدبلوماسي للحفاظ على هامش المناورة ومنع تحويل أمن الملاحة التركي إلى ورقة ضغط. ويوضح أن تركيا قادرة على تعزيز أمنها البحري دون الانخراط المباشر في الحرب الروسية الأوكرانية، من خلال تكثيف الدوريات الجوية والبحرية، واستخدام المسيرات للمراقبة داخل نطاق مسؤوليتها، وتحديث قواعد الاشتباك لتحييد أي أهداف مجهولة تقترب من السفن المدنية.
الحياد العملي والتنسيق مع الناتو
تتمسك تركيا بنوع من الحياد العملي، مع التأكيد على أن أمن الملاحة هو ملف دولي وليس نزاعًا ثنائيًا. وتضغط أنقرة على كييف لعدم تنفيذ هجمات قرب سواحلها، بينما تذكر موسكو بأن دعمها لا يمكن أن يكون غير مشروط طالما استمرت في استخدام البحر الأسود كمنطقة تهديد. وفي هذا السياق، تسعى تركيا إلى توسيع دائرة المشاورات مع حلفائها في الناتو حول أمن البحر الأسود، دون الانجرار إلى مواجهة مباشرة. لقد ناقش وزير الخارجية هاكان فيدان هذه المخاطر مع الأمين العام للحلف مارك روته، مؤكدًا أن الهجمات على ناقلات مرتبطة بروسيا قرب المياه التركية تزيد من احتمالات احتكاك غير محسوب.
التداعيات الاقتصادية وسيناريوهات التصعيد المحتملة
لا تقتصر تداعيات التصعيد البحري على الجانب الأمني، بل تمتد لتشمل المصالح الاقتصادية والإستراتيجية لتركيا في البحر الأسود. يشير الباحث الاقتصادي حقي إيرول جون إلى أن الخطر الحقيقي يكمن في إعادة تسعير الأخطار وإعادة تشكيل مسارات الملاحة إذا استمرت الهجمات. فمع تصنيف المنطقة على أنها عالية الخطورة، سترتفع أقساط التأمين وتكاليف الشحن، مما سينعكس سلبًا على فاتورة الطاقة والحبوب التي تستوردها تركيا من روسيا وأوكرانيا، ويزيد الضغط على التضخم والحساب الجاري.
سيناريوهات مستقبلية وتأثيرها على تركيا
يرسم الباحث جون ثلاثة سيناريوهات محتملة:
- سيناريو التصعيد المحدود: استمرار الهجمات دون استهداف مباشر للسفن التركية، مع بقاء الممرات مفتوحة ولكن بتكاليف أعلى.
- سيناريو التصعيد المتوسط: اقتراب الهجمات من السواحل التركية، مما قد يدفع أنقرة إلى تنويع الممرات التجارية وتحمل تكاليف إضافية، مع انعكاسات سلبية على الليرة والتضخم.
- سيناريو التصعيد الحاد: تحول جزء من البحر الأسود إلى منطقة شبه مغلقة، مما يفرض إعادة هيكلة عميقة لمسارات التجارة التركية ويزيد الضغوط على ميزان المدفوعات.
الخلاصة: الحفاظ على التوازن كأولوية لأنقرة
تعتمد قدرة تركيا على الحفاظ على هذا التوازن الدقيق على فصل أمنها البحري عن حسابات الآخرين، والتعامل مع الهجمات كانتهاك لقواعد الملاحة وليس كفرصة لإعادة التموضع في الحرب الروسية الأوكرانية. كلما بقيت أنقرة في موقع حارس الممرات، وليس طرفًا في المعركة، كلما استطاعت حماية مصالحها وتجنب الانجرار إلى صراع لا تملك تحديد مساره أو نتائجه. من الضروري أن تواصل تركيا جهودها الدبلوماسية والتنسيقية لتهدئة التوترات في البحر الأسود، وضمان استقرار الملاحة، وحماية مصالحها الإستراتيجية والاقتصادية في المنطقة.
الكلمات المفتاحية الثانوية: البحر الأسود، الأمن البحري، الدبلوماسية التركية.















