كوالالمبور– أصدرت المحكمة الدستورية في بانكوك قرارا بتعليق عمل رئيسة وزراء تايلند باتونغتارن شيناواترا، لحين النظر في مشروع عزلها بالبرلمان، وذلك على إثر تسريب مكالمة هاتفية مع رئيس الوزراء الكمبودي السابق هون سين -أجريت في 15 من يونيو/حزيران الماضي- بحثا خلالها سبل خفض التوتر على الحدود.
ويأتي تعليق عمل رئيسة الوزراء في سياق معارك عدة تواجهها الحكومة، وبالتزامن مع مثول والدها تاكسين شيناواترا مجددا أمام المحكمة.
وجاء قرار المحكمة -الذي صدر أمس الثلاثاء- استجابة لطلب 36 عضوا في مجلس الشيوخ، اتهموا فيه شيناواترا بمخالفة الدستور وخيانة الأمانة وغياب اللباقة.
وردت رئيسة الوزراء بقبول الحكم والاعتذار للشعب التايلندي، لكنها أكدت أن حديثها مع رئيس الوزراء الكمبودي السابق كان بحسن نية كامل، ويهدف إلى الحفاظ على سيادة البلاد وأرواح الجنود في ظل التوتر الحدودي.
حساسية الكلمة
أبرز ما أثار الساسة المتربصون بالحكومة الثالثة لعائلة شيناواترا، وحرّك أنصارهم في الشارع، هو مخاطبة رئيسة وزرائهم هون سين بعبارة “يا عم”، وانتقادها في المكالمة نائب رئيس أركان الجيش التايلندي. علما بأن سين يشغل حاليا منصب رئيس مجلس الشيوخ في كمبوديا، واتصف حكمه الذي دام نحو 40 عاما بالعقلانية في إدارة النزاع الحدودي مع تايلند، وحل جزءا منه بتحكيم دولي.
ويقول خبراء في الشأن التايلندي أن لدى التايلنديين حساسية مفرطة في استعمال الكلمات والحركات، حتى أن مستوى رفع اليدين في التحية التقليدية ينبئ عن مستوى التقدير والاحترام، وهو ما استغلته القوى المناهضة للحكومة الحالية، وأدت إلى انسحاب أحد الأحزاب الحليفة للحكومة، بما ينذر بسقوطها.
وطالبت المعارضة -الممثّلة في حزب الشعب- بحل البرلمان والعودة للانتخابات، وذلك بعد أن انسحب أحد الشركاء الرئيسيين في الحكومة.

أزمة عائلية
ولم يمضِ على حكم باتونغتارن (37 عاما) سوى 10 أشهر، وهي أصغر رئيس وزراء في تاريخ البلاد، ورابع شخصية تتقلد المنصب في عائلة شيناواترا، وأظهرت استطلاعات الرأي -الأحد الماضي- تراجع شعبيتها إلى أقل من 10%.
وتسلم السلطة مؤقتا “سوريا جوانغرو نغروانغيت” نائب رئيسة الوزراء لحين انتهاء الإجراءات القضائية، إذ من المفترض أن ترد شيناواترا على الاتهامات الموجهة لها خلال 15 يوما.
وليست رئيسة الوزراء الموقوفة عن العمل الوحيدة التي تواجه الأزمة التي تعصف بالعائلة، فوالدها تاكسين مثُل أمام المحكمة بتهمة “تجريح الملك”. وقد نُبشت القضية بعد عودته من المنفى عام 2023 ودخوله السجن وقضاء مدة سجنه في المستشفى، ثم صدور عفو ملكي بحقه.
وسجلت تهمة “تجريح مقام الملك” بناء على مقابلة صحفية مع صحيفة كورية عام 2015، وذلك رغم رفض شيناواترا الأب (79 عاما)، التهم وتأكيد ولائه للملك، وإذا ما أدين فقد يواجه عقوبة بالسجن تصل إلى 15 عاما.
وأطاح العسكر بحكومة تاكسين شيناواترا عام 2006، وبحكومة شقيقته يينغلوك عام 2014، وتواجه ابنته مشروعا في البرلمان لسحب الثقة وإجراء قضائيا في الوقت نفسه.

رسالة لدول الجوار
وفي حين طرقت أزمة تايلند السياسية أسماع حكومات دول مجاورة، يرى محللون سياسيون أن تدخل الجيش في الشؤون السياسية بتايلند يثير دول مجموعة “آسيان”، خاصة التي تتبنى نظاما سياسيا مشابها يزاوج بين سلطة الملك والنظام الديمقراطي في الحكم.
وهي رسالة استوعبتها أحزاب الحكومة الائتلافية في ماليزيا، ومفادها أن الحيلولة دون عدوى تدخل العسكر يكمن في الحفاظ على الائتلاف الحاكم إلى أن يحين موعد الانتخابات المقبلة عام 2027.
ورغم أن رئيس الوزراء الماليزي أنور إبراهيم التقى نظيرته التايلندية عدة مرات خلال فترة وجيزة، فإن شيئا لم يرشح بشأن عرضه الوساطة سواء في الأزمة الداخلية أو النزاع الحدودي.
لكن مقربين من دوائر الحكم في بوتراجيا (العاصمة الإدارية لماليزيا) يرون أن سرعة تحرك إبراهيم وزيارته لبانكوك بعد الاشتباكات الحدودية تشي باهتمام بالغ في السيطرة على كلتا الأزمتين، ودون إثارة التحفظات بالتدخل المخالف لقواعد دبلوماسية منظمة آسيان التي يرأسها حاليا.
النزاع الحدودي
ويبدو أن رئيسة الوزراء التايلندية كانت تسعى إلى إنهاء التوتر مع كمبوديا في أعقاب الاشتباك الحدودي في مايو/أيار الماضي. وهو نزاع مزمن، لكن تسريب المحادثة الهاتفية تسبب في عاصفة سياسية داخلية، وأدى إلى انسحاب الحزب المحافظ من السلطة، وهو المعروف بأنه أداة للعسكر، وبدأت موجة احتجاجات شعبية ضد الحكومة، واتهام رئيسة الوزراء بالتملق لكمبوديا وإساءة الأدب أو “تجاوز المعايير الأخلاقية”، حسبما ورد في الشكوى القضائية.
وتفاقُم النزاع الحدودي بين عضوين في منظمة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) يبعث كثيرا من القلق في أوساط المنظمة، لا سيما ماليزيا التي ترأس الدورة الحالية وتسعى إلى تقديم آسيان نموذجا للاستقرار الإقليمي والتعاون الاقتصادي.
ويستبعد مراقبون إثارة القضية الحدودية في أروقة آسيان التي يعقد وزراء خارجتيها مؤتمرهم في كوالالمبور الأسبوع المقبل، وذلك التزاما بميثاق المنظمة الذي يمنع التدخل في النزاعات الثنائية أو الشؤون الداخلية للدول الأعضاء، وتعززه الاتفاقية الموقعة عام 1976 التي أكدت “مبدأ عدم التدخل”.