غزة- “ابنك يعاني من سوء تغذية حاد”، شخصت طبيبة في مجمع ناصر الطبي حالة الطفل جاد محمد حماد، ولأن اللحوم والفواكه مفقودة من الأسواق لا بد أن يأكل ما يتوفر من خضروات.
حمل الرجل طفله جاد (5 أعوام) بين ذراعيه وهو غارق في تفكيره “ماذا أفعل؟”، ويقول للجزيرة نت “ذهبنا للمستشفى سيرا لأنني لا أمتلك أجرة المواصلات، فكيف أشتري له البطاطا والبندورة والخيار وأسعارها خيالية؟”.
قطع حماد (38 عاما) نحو كيلومتر واحد، وهي المسافة بين المجمع ومنزله المدمر جزئيا في مخيم خان يونس للاجئين جنوب قطاع غزة، حاملا طفله والكثير من الهموم فوق كتفيه، ولم يكن أمامه من خيار سوى بيع أي شيء في منزله حتى يحصل على المال.
هذا الأب ليس استثناء، وقد أجبرت المجاعة المستشرية في القطاع الغزيين نتيجة الحصار المشدد وإغلاق الاحتلال المعابر ومنع إدخال المساعدات الإنسانية منذ الثاني من مارس/آذار الماضي على خيارات صعبة للبقاء على قيد الحياة كبيع مقتنياتهم وبعض ممتلكاتهم من أجل شراء الطعام الشحيح في الأسواق، وتدبر احتياجاتهم اليومية الأساسية.
خيارات صعبة
لم يجد حماد أمامه سوى أدوات حلاقة لبيعها، وهي ما تبقى له من صالون حلاقة كان يستأجره أسفل بناية غرب مدينة خان يونس دُمرت كليا إبان العملية العسكرية الإسرائيلية الواسعة بالمدينة في 5 ديسمبر/كانون الأول 2023 واستمرت حتى 6 أبريل/نيسان 2024، وخلالها عاثت قوات الاحتلال بالمدينة فسادا وتدميرا.
حصل حماد على مبلغ 250 شيكلا (نحو 69 دولارا) من بيع هذه الأدوات، ويقول إنها نفدت خلال يومين فقط، واضطر بعدها إلى بيع هاتفه المحمول بنحو 270 دولارا ومشاركة زوجته في استخدام هاتفها من أجل إجراء واستقبال مكالمات مع الأهل والأصدقاء للاطمئنان عليهم.
وبصوت يلمؤه الحزن يقول حماد وهو ينظر إلى طفله الممسك بكسرة خبز “إذا استمر الحصار وإغلاق المعابر لا أعرف ماذا سأبيع أيضا، كلنا نعاني من الجوع وسوء التغذية وليس الأطفال وحدهم”.
وبحسب بيانات وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، فإن “مئات الآلاف في غزة يتضورون جوعا، والناس يتساقطون في الشوارع من شدة الجوع والإنهاك والأمراض”.
وخلال الأيام الماضية أدخلت قوات الاحتلال كميات محدودة من شاحنات المساعدات نتيجة ضغوط دولية، لكن الأونروا تقول إنها كإبرة في كومة قش وبمثابة قطرة في بحر احتياجات سكان غزة.
وتقدر الأونروا وهيئات محلية ودولية أخرى أن زهاء مليونين و300 ألف نسمة في القطاع الساحلي الصغير بحاجة إلى 500 شاحنة يوميا من المساعدات من أجل التعافي وتجاوز مخاطر المجاعة.
وألقى الحصار بظلاله الثقيلة على أسواق غزة، حيث تشهد أسعار الخضروات والمواد الغذائية الشحيحة ارتفاعا غير مسبوق لا تقوى عليه الأغلبية من الغزيين ممن فتكت بهم الحرب المستعرة منذ اندلاعها عقب عملية “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وأفقدتهم مصادر رزقهم وأموالهم ومدخراتهم.
ويقول حماد إنه اشترى حبتي بطاطا بـ26 شيكلا (نحو 7 دولارات)، وهذا المبلغ كان يكفي لشراء نحو 8 كيلوغرامات من البطاطا قبل اندلاع الحرب، ويضيف بسخرية ممزوجة بالقهر “وكمان أصبحنا نشتري البطيخ بالشقحة (بالقطعة) بعدما كنا نشتريه بالكمية ولا ينقطع من منازلنا ونأكله يوميا في موسمه”.

نزوح وجوع
وفي جولة للجزيرة نت داخل مدرسة تعج بالنازحين غرب مدينة خان يونس استوقفنا النازح أحمد أبو إسحاق وهو يضع غطاء داخل كيس بلاستيكي مهترئ ويهم للخروج من المدرسة “أين ذاهب به؟ سألناه، فأجاب بلا تردد “سأبيعه وأشتري الطحين لأسرتي وأطفالي”.
قبل نحو أسبوع اضطر أبو إسحاق (32 عاما) للنزوح بأسرته (5 أفراد) من بلدة بني سهيلا شرق خان يونس، وهي المرة العاشرة التي يخوض فيها تجربة النزوح القاسية منذ اندلاع الحرب.
ليس لهذا الشاب دخل يعتاش منه، وهذه ليست المرة الأولى التي يضطر فيها لبيع بعض مقتنياته وممتلكاته من أجل إطعام أطفاله، وأصغرهم رضيع في شهره الثاني، ويقول إنه باع دراجته الهوائية التي حمل عليها القليل من الأغطية وملابس الاطفال وقت نزوحهم الأخير من أجل شراء الطحين لإعداد الخبز، والحليب لرضيعه.
ويتراوح سعر كيلو الطحين بين 60 و100 شيكل (بمتوسط 22 دولارا)، وأغلبية المعروض منه في الأسواق حاليا هي كميات استولى عليها لصوص اعترضوا طريق شاحنات المساعدات وسرقوها من مناطق أجبر الاحتلال الشاحنات على المرور منها ضمن “مسار غير آمن”.
ويقول أبو إسحاق إن سعر كيس الدقيق زنة 25 كيلوغراما لا يزيد على 30 شيكلا (نحو 8 دولارات) في الوقت الطبيعي، وهو أساسا منحة مجانية مقدمة من أونروا للاجئين، وخلال الحرب استفاد منها كل السكان، في حين وصل سعره إلى نحو ألف دولار في السوق السوداء.
وتسببت عمليات السطو على هذه الشاحنات في إغلاق المخابز المدعومة من برنامج الأغذية العالمي بعد أيام قليلة من استئناف عملها جراء نفاد الطحين من مخازنه، ويضيف أبو إسحاق “المخابز اشتغلت وأغلقت ولم نشعر بها ولم نحصل على الخبز”.

مذبحة ومجاعة
وفي صف مجاور داخل هذه المدرسة تقيم آمنة الصبيحي (62 عاما) مع عائلتها (9 أفراد)، وهي آخر محطات نزوحهم المتكرر منذ أن غادروا مدينة رفح جنوب القطاع على وقع الاجتياح الإسرائيلي للمدينة في 6 مايو/أيار من العام الماضي.
وتعاني هذه النازحة الستينية من أمراض مزمنة، وخسرت أكثر من 20 كيلوغراما من وزنها خلال شهور قليلة، وتقول للجزيرة نت “الاحتلال يقتلنا بالقصف والتجويع ومنع الطعام والدواء عنا، والحرامية يساعدونه بسرقة المساعدات”.
وتشكو الصبيحي مما تصفها بالأسعار المجنونة للخضروات، وقد اضطرت لبيع أسطوانة غاز منزلية فارغة بمبلغ 300 شيكل (نحو 83 دولارا) تقول إنها بالكاد أوفت بثمن دوائها، والقليل من الخضروات تناولتها وعائلتها في وجبة واحدة.
وهذا المبلغ كان كافيا قبل اندلاع الحرب لشراء مثل هذه الأسطوانة وفيها نحو 12 كيلوغراما من غاز الطهي المفقود تماما منذ إغلاق المعابر، وانعكس ذلك على أسعار الحطب والأخشاب التي ارتفعت على نحو غير مسبوق، لزيادة الطلب عليها كبديل للغاز المنزلي.
وبحزن شديد، تتحدث هذه المسنة المريضة عن اضطرارها أيضا لبيع عباءتين من ملابسها القليلة التي نزحت بها من مدينة رفح، وتقول والدموع تحتبس في عينيها “لم يعد لدي ما أبيعه، لمتى ستستمر هذه المذبحة والمجاعة؟”.