خلال الأشهر الأخيرة جعل الرئيس الصيني شي جين بينغ موقف الصين من العلاقة مع الولايات المتحدة واضحا بشكل لا لبس فيه، وانعكس ذلك في خطاباته وتصريحاته المتعددة في قمم مثل “بريكس” و”بريكس بلس” ومنتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادي (APEC) وقمة العشرين.

وتحدث الرئيس الصيني بوضوح عن إستراتيجيته تجاه الولايات المتحدة في ظل عودة الرئيس المنتخب دونالد ترامب إلى السلطة وما قد يحمله ذلك من تحديات للعلاقات الثنائية، مستعرضا رؤيته لعالم مثالي بعيدا عن الهيمنة الغربية التي ترى بكين أنها تعيق التقدم العالمي.

وحدد الرئيس الصيني خطوطا حمراء للعلاقة بين البلدين لا يجوز تجاوزها، وتشمل قضية تايوان وملف حقوق الإنسان ومسار التنمية الصينية.

ولعل أبرز إعلان لتلك الخطوط وشكل العلاقة، كان في لقاء جمعه مع الرئيس الأميركي جو بايدن في 16 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي على هامش الاجتماع 31 لقادة اقتصادات منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادي  (APEC) في عاصمة بيرو ليما.

وأكد أن سياسة “احتواء الصين” محكوم عليها بالفشل، داعيا إلى تعاون مبني على الاحترام المتبادل والندية، وقد يُنظر إلى هذا اللقاء مستقبلا، كلحظة فاصلة في العلاقات الصينية-الأميركية، نظرا لأهميته، حيث وضع إطارا واضحا للعلاقة بين البلدين، خاصة مع عودة دونالد ترامب إلى السلطة.

فخ ثوسيديس

انطلق الرئيس شي في حديثه مع الرئيس بايدن في لقائهما في ليما، مفندا نظرية المفكر الأميركي غراهام تي أليسون المعروفة بـ “فخ ثوسيديدس” الرائجة بين السياسيين الأميركيين اليوم.

ومفاد تلك النظرية أن الصدام شبه حتمي بين الصين كقوة صاعدة والولايات المتحدة كقوة مهيمنة، مؤكدا أن الصين غير قابلة للهزيمة، وأن من سيحاول ذلك سيفشل، وأن خسارتها ستكون خسارة للجميع.

وحسب تعبير شي في منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادي “لاحظ أحد الحكماء الصينيين القدماء أن الرجل الفاضل، بينما يعمل على ترسيخ نفسه وتحقيق النجاح، يعمل أيضا على مساعدة الآخرين على ترسيخ أنفسهم وتحقيق النجاح”.

وذكر الرئيس الصيني صراحة خلال اللقاء مع بايدن أن سياسة “احتواء الصين” ليست خيارا حكيما أو مقبولا، ومن المؤكد فشلها.

وحدد في خطابه 7 نقاط أساسية كمبادئ توجيهية للعلاقات، وهي:

  • المواجهة بين الطرفين ليست حتمية.
  • الثقة والمصداقية وتوافق الأقوال مع الأفعال مطلب أساسي لنجاح العلاقة.
  • ضرورة التعامل من منطلق الندية والمنافسة.
  • الحرص على عدم التعدي على المصالح القومية الكبرى والتي تعتبر خطوطا حمراء.
  • اعتماد مبدأ الحوار والتعاون.
  •  والعمل على التجاوب مع تطلعات الشعب بالاستقرار والرفاه.
  •  إدراك مسؤولية الدول الكبرى في مجال السلام العالمي والصالح العام للبشرية.

كما شدد على 4 خطوط حمراء رئيسية في علاقة البلدين، وهي:

  • قضية تايوان.
  • ملف حقوق الإنسان.
  • مسار الصين ونظامها.
  • حق الصين في التنمية.

بالتأكيد فإن المخاطب بهذه السياسات والخطوط الحمراء في كلام الرئيس الصيني الاستثنائي وغيره من المسؤولين الصينيين، لم يكن الرئيس بايدن، بل هو ترامب المعروف بمواقفه المتشددة تجاه الصين.

ففي مقال نشرته وكالة بلومبيرغ تحت عنوان “غصن الزيتون الذي يقدمه شي إلى ترامب يأتي مصحوبا بتحذير بشأن الخطوط الحمراء” وآخر في افتتاحية صحيفة ساوث تشاينا مورنينغ بوست تحت عنوان “شي يحدد خطوطا حمراء في المحادثات مع بايدن من أجل ترامب”.

وكان ترامب قد هدد خلال حملته الانتخابية بإعادة فرض رسوم جمركية تصل إلى 60% على الواردات الصينية بجانب الرسوم القائمة، كما هدد لاحقا بفرض جمارك 100% على دول منظمة بريكس التي يمكن أن تفكر بتقويض مكانة الدولار الأميركي، ومواصلة سياسات الضغط للحد من صعودها على الساحة الدولية.

وشكل فريقا من الذين ما فتئوا يطلقون تصريحات معادية للصين، مثل بيتر نافارو وستيفن ميلر، اللذين طالما أكدا في مقالاتهما على ضرورة استمرار خطط الضغط على الصين، مع التركيز على “التعامل الصارم” وفرض تعريفات جمركية جديدة وتوسيع الإجراءات لحماية الصناعة الأميركية.

إذن، من الواضح أن الصين على لسان شي أرادت تحديد الممنوع والمسموح في العلاقة الصينية الأميركية ومجالات التعاون المختلفة ومحاولة الاستفادة المتبادلة من المصالح بدلا من التنازع، وأنها مستعدة لكل الخيارات.

من جانبه، أشار بايدن خلال لقاء بشي في قمة ليما، إلى أهمية التعاون بين البلدين في مواجهة التحديات العالمية، مثل التغير المناخي والأمن الغذائي، ومع ذلك، عكس البيان الأميركي الرسمي بعد اللقاء، تجاهلا واضحا للموقف الصيني الحازم، حيث وصف الاجتماع بأنه “إيجابي وبناء”، ويتحدث عن لقاء شبه روتيني، لا يشكل علامة فارقة البتة في العلاقة بين الطرفين، مما يشي بعدم المبالاة الأميركية بمطالب الصين أو عدم جدية إدارة بايدن بالتعامل مع هذا الموضوع المهم.

قمة قازان

وسبق أن ألقى الرئيس الصيني قبل ذلك بأقل من شهر، خطابا قويا خلال قمة “بريكس” ثم في “بريكس بلس” التي عُقدت في قازان في 23 و24 أكتوبر/تشرين الأول الماضي وضع فيه تصورات جديدة لمستقبل النظام العالمي، وركز فيه على بناء عالم أكثر عدالة وإنصافا وعلى ضرورة منع انزلاق العالم إلى هاوية الفوضى والاضطراب.

وبعث رسائل واضحة عن رغبة الصين في قيادة التحول نحو نظام عالمي متعدد الأقطاب، بعيدا عن الهيمنة الغربية، وهو ما تم عكسه أيضا في خطاب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في نفس المؤتمر، وإن كان ضمن رؤية أقل اتساعا من الرؤية الصينية.

وفي خطابه أمام اجتماع “بريكس بلس”، الذي لم يستغرق سوى بضع دقائق، استخدم الرئيس شي مصطلح “الجنوب العالمي” 13 مرة، مشيرا إلى أهمية الدول النامية في تشكيل المستقبل العالمي، وأن التحديث والتنمية الاقتصادية لهذه الدول يمثلان حدثا تاريخيا يجب دعمه.

كما دعا إلى تعزيز الحوكمة العالمية في مجالات الأمن والاقتصاد في إشارة مبطّنة إلى فشل النظام العالمي بصورته الحالية، ورفَض صراحة سياسات الهيمنة التي وصفها بأنها تعيق التعاون الدولي.

وأوضح الخطاب أيضا أن بكين ترى فرصتها أكبر في قيادة العالم النامي نحو مستقبل أكثر استدامة، في وقت تعاني فيه المنظومة الغربية التقليدية من أزمات متعددة.

ولعل هذا التركيز على فكرة الجنوب العالمي يوحي بأن الصين ترمي إلى حشد الدول المتضررة من النظام الدولي القائم حاليا -وأغلبها خارج جغرافيا أوروبا الغربية وأميركا الشمالية- لتشكيل كفة تُوازن الهيمنة الغربية على العالم وتحدّ من تغولها، تحت عناوين جذابة كالتنمية والاستقرار.

رؤية الصين للنظام العالمي

لم تقتصر رؤية الصين على انتقاد النظام الدولي الحالي والتعبير عن عدم رضاها عن كيفية إدارة ما يسمى بالمجتمع الدولي، والتشكك بكيفية توظيف هذه المؤسسات بحيث تخدم دولا بعينها، بل تجاوزت ذلك إلى طرح مبادرات متعددة تسعى لإعادة صياغة هذا النظام بما يخدم توازن القوى عالميا، وحل الأزمات المستعصية التي تواجه العالم.

وترى بكين أن الإصلاح التدريجي للنظام الدولي لن يكون كافيا لتلبية تطلعات الشعوب النامية، مما دفعها إلى تسويق نموذجها كبديل، وقد أظهرت دراسة صادرة عن مجلس الأطلسي بعنوان “كيف تعيد بكين تشكيل النظام العالمي؟”، أن المبادرات الصينية تهدف إلى ترسيخ نظام عالمي جديد تكون الصين مركزه.

ومن أبرز تلك المبادرات “مبادرة الأمن الجماعي” و”مبادرة التنمية العالمية” و”مبادرة الحزام والطريق” و”مبادرة الحضارة العالمية” وغيرها، وكيفية تسويقها على أنها تنسج عالما جديدا بمعايير صينية، وتنتج نظاما عالميا جديدا بديلا عن النظام الحالي، الذي تحتل الولايات المتحدة مركزه.

وورد في دراسة صادرة عن مجلس الأطلسي بعنوان ” كيف تسعى مبادرات بكين الجديدة إلى إعادة صناعة النظام العالمي”، أن الصين تروج لنظرية تكون فيها هي مركز هذا النظام العالمي المستقبلي المنشود.

من وجهة النظر الصينية، فالصين أخرجت 800 مليون مواطن من تحت خط الفقر، ولديها الحلول لكل المشاكل التي يعاني العالم منها اليوم، كما عبر عن ذلك الرئيس شي في كلمته أمام منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادي عندما قال إن بلاده وضعت خططا منهجية لتعميق الإصلاح على نطاق واسع لتعزيز التحديث الصيني.

وتابع أنه تم الكشف عن أكثر من 300 تدبير إصلاحي لاحق يتعلق “ببناء اقتصاد سوق اشتراكي عالي المستوى، وتعزيز التنمية الاقتصادية عالية الجودة، وتعزيز الانفتاح عالي المستوى، وتحسين نوعية حياة الناس، وبناء دولة جميلة. وسوف يوفر المزيد من التنمية في الصين فرصا جديدة لمنطقة آسيا والمحيط الهادي والعالم أجمع”.

بالطبع، لا تبدو الولايات المتحدة مستريحة تجاه هذه المبادرات الكثيرة، بل ترى فيها تقويضا لقيادتها وهيمنتها على العالم، بل أبعد من ذلك فهي تخشى أن تكون الشركات الصينية المشاركة في هذه المبادرات خاصة مبادرة “الحزام والطريق”، مركزا للنظام الذي تدعو الصين إلى تكوينه، وأن تسيطر هذه الشركات على الأسواق العالمية في أميركا وأفريقيا وفي أميركا اللاتينية بل حتى في أوروبا.

استعداد لكل الاحتمالات

تشعر الصين بالقلق إزاء السياسات الأميركية، خاصة مع تبني واشنطن لنظرية أن الصدام بين القوى الصاعدة والقوى المهيمنة هو أمر محتوم، وفي المقابل، تتبع بكين إستراتيجية طويلة الأمد تهدف إلى تجنب الصراع من خلال تعزيز دورها العالمي.

ولا شك أن الخطوط الحمراء التي شدد عليها الرئيس شي، هي المداخل الكبرى لتقويض السيادة الصينية.

وباتت بكين تدرك أن رغبتها بتجنب الصراع مع الولايات المتحدة ليس مرهونا بالنيات الصينية وحسب، بل يعتمد بالمقام الأول على سلوك الولايات المتحدة، التي تعتنق نظرية الصدام، وتنتهج ما يطلق عليه إستراتيجية “الفناء الصغير والسياج العالي” التي وضعها مستشار الأمن القومي جيك سوليفان، للحد من نفوذ الصين.

ويبدو أن هذا النهج لا يقتصر على إدارة بايدن والحزب الديمقراطي، بل يتعداه ليشمل غالبية النخبة السياسية الأميركية التي باتت تنظر إلى الصين كمهدد لزعامتها على العالم بل للحضارة الغربية ذاتها.

كما ترى أن عليها أن تحول دون تحقيق الصين لأهدافها مهما كانت التكاليف، ويفضل أن يكون ذلك بأقرب وقت ممكن وقبل أن يصبح ذلك متأخرا.

بالمقابل فإن النخبة الصينية في محاولتها تجنب المواجهة مع أميركا، تنطلق من نظرية أن الولايات المتحدة هي قوة عظمى آفلة وأن تأخير الصراع معها يمكن أن ينفي الحاجة إليه، مع استمرار تراجع الدور الأميركي وضعف نفوذ الغرب عامة.

ولكنها مع ذلك تريد أخذ التدابير الكافية التي تحصن الصين ضد الهزيمة إن حصلت مواجهة في أي مجال من المجالات مع الولايات المتحدة، بالذات في عهد الرئيس ترامب الذي صار معروفا عنه أنه يستعمل إستراتيجيه “الرجل المجنون” غير القابلة للتنبؤ، في إدارته للعلاقات الخارجية.

شاركها.
اترك تعليقاً

2024 © السعودية خبر. جميع حقوق النشر محفوظة.