أدت حالة عدم الاستقرار المستديم في دولة تشاد إلى ظهور مجموعة من الحركات المسلحة والمرتزقة الذين تحولوا إلى عنصر فاعل في العديد من البؤر المشتعلة في الدول المجاورة.
ورغم احتواء هذه المجموعات على كيانات سياسية تستهدف نظام الحكم في إنجمينا، فإن ذلك لم يحل دون بروز جماعات مسلحة أخرى انخرطت في أنشطة اقتصادية غير مشروعة مهددة الاستقرار لا في تشاد وحدها، بل تعدى تأثيرها إلى دول أخرى كذلك.
كيف ظهرت هذه المجموعات؟
تربط ورقة صادرة عن “معهد الولايات المتحدة للسلام” ظهور الجماعات المسلحة في عهد الرئيس الراحل إدريس ديبي بالمظالم المتمثلة في سوء إدارة عائدات النفط، والفساد، والطابع المركزي والانقسامي والقمعي للحكومة التشادية.
بجانب ذلك الاستقطاب العرقي للحفاظ على السلطة من خلال تفضيل ديبي مجموعته العرقية من الزغاوة، مما أدى إلى شعور قطاعات عديدة من المجتمع التشادي بالتهميش واندفاعها نحو التمرد المسلح.
إضافة إلى ما سبق تتحدث الأرقام الواردة في تقارير أممية عن تحديات اقتصادية واجتماعية كبيرة يواجهها التشاديون الذين يرزح قرابة 64.7% منهم تحت خط الفقر، في حين يعاني 2.2 مليون من سوء التغذية و3.7 ملايين من انعدام الأمن الغذائي.
وهو ما يخلق البيئة الخصبة التي تستغلها الجماعات المسلحة لإشعال السخط على النظام القائم وضم المزيد من المقاتلين إلى صفوفها، الذين قد يلوح لهم هذا الانضمام كفرصة وحيدة للحصول على الدخل.
كما فتحت الصراعات السياسية بين تشاد ودول الجوار الباب لاندلاع حروب الوكالة المتبادلة من خلال تبني بعض الدول المجاورة لمتمردين تشاديين مستفيدة من التداخل بين المجموعات العرقية على طرفي الحدود.
وفي هذا السياق يبرز احتضان نظام الرئيس السوداني السابق عمر البشير لمعارضين تشاديين بين عامي 2005-2010 ردا على دعم إنجمينا لمتمردين سودانيين في دارفور عقب اندلاع الأزمة غربي البلاد في 2003.
وتصف دراسة صادرة عن مشروع مسح الأسلحة الصغيرة عام 2017 التراجيديا التشادية بأنه على مدى الأعوام الـ50 الماضية عانت الصحراء التشادية من فترات حرب أكثر ممّا نعمت بفترات سلام، مما خلق حالة من غياب الدولة وسيطرة حركات المعارضة المسلحة.
ونتيجة التداخل القبلي مع دول الجوار فقد مثل مقاتلو قبائل التبو شمالي تشاد أحد العناصر الفاعلة في حالة عدم الاستقرار في ليبيا والنيجر كذلك.
وبينما ذكر القائد السابق لإحدى الجماعات المتمردة التشادية محمد بولماي في تصريح له أن هناك الآلاف من الشباب التشادي في ليبيا، تشير إحدى الدراسات إلى أنه من الصعب تحديد عدد هؤلاء المقاتلين في الجماعات المسلحة غير الحكومية نتيجة العديد من العوامل كالوفيات والتجنيد المنتظم والمستمر.
بيد أن الرقم التقريبي الذي وصلت إليه الدراسة الصادرة عام 2020 لأعضاء هذه الجماعات في كل من ليبيا والصحراء الأفريقية يحددهم بنحو 7 آلاف مقاتل.
مجموعات مسلحة سياسية
تشمل الجماعات المسلحة التشادية طيفا واسعا من القوى المتباينة في الحجم والرؤى، وينقسمون، وفقا لتحليل أصدرته مجموعة الأزمات الدولية، على أسس عرقية وطموحات شخصية، بل إنهم يتنافسون بين بعضهم بعضا، في حين ينخرط مقاتلوهم في أشكال مختلفة من النشاطات ويعملون في بعض الأحيان كمرتزقة للجماعات المسلحة الليبية.
وأهم هذه المجموعات جبهة الوفاق من أجل التغيير في تشاد “فاكت” (Fact) وهي منظمة سياسية وعسكرية أنشأها ضباط منشقون عن الجيش التشادي عام 2016 بهدف الإطاحة بحكومة الرئيس إدريس ديبي، ويغلب عليها إثنية التبو من الدازا.
وبجانبها نجد اتحاد قوى المقاومة “يو إف آر” الذي تأسس أواخر الحرب الأهلية التشادية (2005-2009) ويضم مجموعة من الفصائل المسلحة ويغلب عليه الزغاوة.
وعام 2016 تأسس مجلس القيادة العسكرية لإنقاذ الجمهورية (سي سي إم إس آر) وهي جماعة متمردة مسلحة تسعى إلى الإطاحة بحكومة تشاد، ويتركز نشاطها في المناطق الحدودية شمالي وجنوب ليبيا وشرق النيجر وغرب السودان، ويغلب عليها أبناء قبائل التبو.
في حين يغلب القرعان من الأنكازا على اتحاد القوى من أجل الديمقراطية والتنمية (يو إف إف دي) ويتألف من مجموعات تشادية مسلحة، وينشط منذ 2006.
مسلحون ومرتزقة
وبينما تتصف المجموعات السابقة بالتزامها خطا سياسيا معارضا لنظام الحكم في إنجمينا، فثمة جماعات أخرى غير مسيسة من المسلحين التشاديين، وناتجة غالبا عن انشقاق من المتمردين الساعين لتحقيق مكاسب اقتصادية سواء من خلال عملهم كـ”بنادق مؤجرة”، أو من خلال الانخراط في نشاطات غير مشروعة.
وتذهب دراسة صادرة عن “المبادرة العالمية للجريمة المنظمة عبر الحدود” إلى أن هذه الفئة اتسمت بجاذبية أكبر بالنسبة للمجندين -قياسا بسابقتها- بالنظر إلى تمتع المقاتلين فيها بحصة من الغنائم وظروف معيشية أفضل.
كما أن هذه الجماعات توفر ما يمكن وصفه بأعمال مؤقتة تسمح للمقاتلين بالعودة إلى مواطنهم مع ما نهبوه، على خلاف الحال في المجموعات المعارضة التي تعاقب على الهرب بالإعدام.
وفي السياق نفسه، كان التعاون مع هذه المجموعات خيارا مفضلا لبعض أطراف الصراع الليبي تجنبا لاستعداء إنجمينا، إذ كانت القوى المسلحة المتمردة تستثمر في تعاونها مع القوى الليبية لمراكمة قدرتها تسليحا وتدريبا لمهاجمة تشاد.
كما حدث في الهجوم الشهير لمجموعة فاكت الذي أدى إلى مقتل الرئيس إدريس ديبي عام 2021 والذي انطلق من جنوب ليبيا.
وانخرط مرتزقة تشاديون بشكل فردي في صفوف بعض المجموعات الليبية كاللواءين 116 و128 المتحالفين مع القوات المسلحة العربية الليبية، مقابل راتب شهري يقارب 600 دولار، وهذا الاختيار كان راجعا لخبرتهم القتالية وعدم اضطرار مشغليهم الليبين إلى دفع مبالغ مالية ضخمة لعائلاتهم عند قتلهم في المعارك.
أي أن قدرة هذه المجموعات على الاستمرار في نشاطها ارتبطت بحصولها على الموارد المالية الكافية.
القتال إلى جانب كل الأطراف في ليبيا
وبالنسبة للقوى المسلحة المنظمة ضمن هياكل سياسية، فقد كان السودان الملاذ لها، في ما قبل توقيع الخرطوم وإنجمينا عام 2010 على اتفاق سلام أفضى إلى تشكيل قوة حدودية مشتركة للقضاء على المتمردين، مما أدى إلى انتقال العديد منهم إلى الجنوب الليبي والذي ترافق مع اندلاع ثورة فبراير/شباط 2011 في ليبيا، وما تلاها من حالة فوضى وحرب مستعرة وفرت “بيئة عمل” ملائمة لهذه المجموعات.
وتتحدث العديد من المصادر عن استعانة فصائل ليبية مختلفة ببعض هذه المجموعات، وأكدت دراسة صادرة عن “المبادرة العالمية للجريمة المنظمة عبر الحدود” تزايد أهمية مشاركة مقاتلين تشاديين في مجريات الحرب الليبية بعد عام 2014، حيث اعتبرتهم بعض الأطراف المتصارعة أصول حرب رئيسية يمكن أن تساعد في كسب المعركة، أدى ذلك إلى زيادة إيرادات هؤلاء المقاتلين.
وبينما يشير تقرير أممي صادر عام 2019 إلى دور المقاتلين التشاديين في القتال إلى جانب طرفي الصراع، تؤكد أرقام منقولة عن دراسة لـ”مشروع مسح الأسلحة الصغيرة” تقلب ولاء بعض هؤلاء المسلحين، حيث تلقت إحدى المجموعات 40 مركبة من قوات الجنرال خليفة حفتر صيف عام 2016 قبل أن تتلقى مقابلا أكبر من خصومه لاحقا، مما دفعها إلى تسليمهم بعض المناطق الواقعة في الهلال النفطي.
أنشطة اقتصادية غير مشروعة
ووفقا لدراسة “المبادرة العالمية للجريمة المنظمة عبر الحدود” فإن جماعات مسلحة تشادية تورطت في نشاطات اقتصادية غير مشروعة بما يتضمن تجنيد المقاتلين والاتجار بالمخدرات وتهريب الأسلحة والسيارات والبشر واستخراج الذهب غير المشروع، سواء تولت هذه الأعمال بنفسها مباشرة، أو عبر استغلال الجهات القائمة بهذه الأنشطة أو مرافقتها في المثلث الحدودي الرابط بين تشاد وليبيا والنيجر.
كما تربط الدراسة المذكورة بين وقف إطلاق النار في ليبيا -الموقع في أكتوبر/تشرين الأول 2020- وارتفاع عدد الحوادث الأمنية شمال النيجر وتشاد، عازية ذلك إلى زيادة نشاط هذه المجموعات غير المشروع نتيجة هدوء ساحات القتال، ومرجحة تصاعد هذا النمط الإجرامي -الذي يوفر لتلك الجماعات الموارد للاستمرارية- مما يغذي نمو الأسواق غير المشروعة في المنطقة مشكلا تهديدا للاستقرار على المدى الطويل لمنطقة الساحل.
السودان.. الوجهة القادمة؟
من جانبه، يرجح المدرس المساعد في قسم الأمن وعلوم الجريمة بجامعة كوليج لندن ألكسندر بيش، في مقال له صدر في مايو/أيار 2023، أن تتحول الحرب السودانية إلى فرصة جديدة لمجموعات مسلحة تشادية للاستفادة من الصراع الدائر في أرض النيلين من خلال الانخراط في اقتصاد الحرب.
وقد يحدث ذلك، بحسب بيش، بعد أن أدى اتفاق 2020 في ليبيا إلى خفض فرص عمل المرتزقة، في حين يبدو وجودهم نفسه فيها مهددا مع الدعوة إلى خروج جميع المقاتلين الأجانب من ليبيا.
وتنتشر على منصات التواصل الاجتماعي العديد من المقاطع المصورة التي تزعم وجود مقاتلين تشاديين يشاركون في الحرب السودانية.
في حين أعلن الجيش السوداني في أبريل/نيسان 2024 عن القبض على “مرتزقة” من تشاد وجنوب السودان ضمن قوات الدعم السريع بمدينة أم درمان غربي العاصمة الخرطوم، كما اتهم الجيش تشاد بتسهيل وصول المقاتلين إلى السودان هو ما نفته إنجمينا بشدة.