في 27 أكتوبر/تشرين الأول 2025، شهدت أنقرة إعلاناً استثنائياً هزّ أوساط السياسة والدفاع الأوروبية. وقف رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر والرئيس التركي رجب طيب أردوغان جنباً إلى جنب للإعلان عن صفقة طائرات يوروفايتر تايفون، والتي تمثل تحولاً كبيراً في العلاقات بين تركيا وأوروبا. هذه الصفقة، التي تتضمن بيع 20 طائرة بقيمة 8 مليارات جنيه إسترليني مع خطط مستقبلية لشراء 40 طائرة، ليست مجرد اتفاقية تجارية، بل هي اعتراف متزايد بأهمية تركيا الاستراتيجية في قلب الأمن الأوروبي.

صفقة يوروفايتر تايفون: نقطة تحول في السياسة الدفاعية الأوروبية

حفل التوقيع في العاصمة التركية لم يكن مجرد إجراء شكلي، بل كان رسالة قوية. وصول ستارمر برفقة وزير الدفاع جون هيلي وقائد القوات الجوية البريطانية، بالإضافة إلى التحليق المذهل لثلاث طائرات تايفون تابعة لسلاح الجو الملكي البريطاني فوق أنقرة، أكد على الأهمية القصوى التي توليها لندن لهذه الشراكة. بالنسبة لتركيا، تمثل هذه الصفقة انتصاراً سياسياً بعد أكثر من عامين من المفاوضات المعقدة التي واجهت معارضة قوية من ألمانيا، العضو الرئيسي في تحالف يوروفايتر.

تجاوز العقبات الألمانية: إدراك أوروبي جديد

لطالما كانت ألمانيا حذرة في التعاون العسكري مع تركيا، بسبب الخلافات حول قضايا حقوق الإنسان والسياسة الخارجية. ومع ذلك، يبدو أن التطورات الجيوسياسية الأخيرة دفعت برلين إلى إعادة تقييم موقفها. زيارة مستشار ألمانيا فريدريش ميرتس إلى أنقرة في أكتوبر الماضي، ودعوته إلى شراكة استراتيجية أعمق مع تركيا، كانت بمثابة اعتراف عملي بأهمية أنقرة، خاصة في ظل التحديات العالمية المتصاعدة.

تحول في العلاقات الأوروبية التركية: من الشروط إلى الشراكة

لم تقتصر التغييرات على صفقة الطائرات. شهدت العلاقات الأوروبية التركية تحولاً ملحوظاً في السنوات الأخيرة، بعيداً عن النهج “الفوقي” المشروط الذي اتسم بالانتقادات المتكررة والتعليق الدوري للمفاوضات. هذا التحول يتجلى بوضوح في اللغة المستخدمة من قبل المؤسسات الأوروبية عند الإشارة إلى تركيا.

ففي عام 2021، أصدر البرلمان الأوروبي تقريراً قاسياً اتهم أنقرة بالابتعاد عن القيم الأوروبية ومهاجمة الدول الأعضاء. لكن في يونيو 2023، صدر تقرير برلماني مختلف تماماً، خلص إلى أن الاتحاد الأوروبي لديه مصلحة كبيرة في تقوية علاقاته مع تركيا. هذا التغيير في النبرة أدى إلى استئناف الحوار رفيع المستوى بين الاتحاد الأوروبي وتركيا، وهو الحوار الذي كان معلقاً منذ عام 2019.

تركيا: قلب الأمن الأوروبي النابض

ما الذي يقف وراء هذا التحول الكبير في الموقف الأوروبي؟ الإجابة تكمن في التغيرات الجيوسياسية المتسارعة. يخشى الأوروبيون بشكل متزايد من “عدوانية” روسيا، ويشعرون بالقلق إزاء عدم اليقين بشأن السياسة الخارجية الأمريكية. بالإضافة إلى ذلك، يدركون الدور المتزايد لتركيا في ملفات إقليمية حيوية مثل سوريا وليبيا وغزة وشرق البحر الأبيض المتوسط.

تركيا تمتلك ثاني أكبر قوة عسكرية في حلف شمال الأطلسي (الناتو) بعد الولايات المتحدة، وموقعها الجغرافي الاستراتيجي يجعلها لاعباً أساسياً في الأمن الإقليمي. كما رسخت تركيا نفوذها في البحر الأبيض المتوسط، البوابة الجنوبية لأوروبا، من خلال دورها في سوريا.

دور تركيا في مواجهة التحديات الأمنية

تعتبر تركيا شريكاً حيوياً في مواجهة التحديات الأمنية المتعددة التي تواجه أوروبا. ففي سياق الصراع الأوكراني، تولت أنقرة قيادة المكون البحري لقوة المهام المشتركة التابعة للناتو في البحر الأسود، وقدمت معلومات استخباراتية قيمة حول الأنشطة الروسية في المنطقة. كما حافظت تركيا على توازن دقيق بين دعم أوكرانيا والحفاظ على حوار دبلوماسي مع روسيا، مما جعلها وسيطاً محتملاً في حل الأزمة.

الصناعات الدفاعية التركية: شريك أم منافس؟

بالإضافة إلى دورها السياسي والأمني، تكتسب الصناعات الدفاعية التركية أهمية متزايدة في أوروبا. حققت الشركات التركية أرقام تصدير قياسية في عام 2024، بفضل منتجاتها المبتكرة مثل الطائرات المسيرة بيرقدار TB2. هذه الطائرات أثبتت فعاليتها في العديد من النزاعات، بما في ذلك الصراع في أوكرانيا، وأصبحت مطلوبة من قبل العديد من الدول الأوروبية.

بدلاً من النظر إلى تركيا كمنافس، بدأت أوروبا في رؤيتها كمكمل لإنتاجها الدفاعي. وقد أدى ذلك إلى إطلاق مبادرات تعاون صناعي بين الشركات التركية والأوروبية، مثل المشروع المشترك بين ليوناردو الإيطالية وبايكار التركية لإنتاج الطائرات المسيرة.

الأبعاد الاقتصادية: روابط قوية ومتنامية

العلاقات الأوروبية التركية ليست مقتصرة على السياسة والدفاع، بل لديها جذور اقتصادية عميقة. بلغ حجم التجارة الثنائية بين الاتحاد الأوروبي وتركيا مستويات قياسية في عام 2024، مما يجعل تركيا خامس أكبر شريك تجاري للاتحاد الأوروبي.

تحديث اتفاقية الاتحاد الجمرعي لعام 1995 يمثل خطوة مهمة في تعزيز التعاون الاقتصادي بين الجانبين. هذا التحديث سيشمل التجارة الرقمية والخدمات والقطاعات الصناعية المتقدمة، مما سيؤدي إلى نمو اقتصادي لكلا الطرفين.

مستقبل العلاقات الأوروبية التركية: شراكة استراتيجية أم تسوية مؤقتة؟

على الرغم من هذه التطورات الإيجابية، لا تزال هناك بعض الخلافات بين أوروبا وتركيا. فرنسا واليونان، على سبيل المثال، لديهما موقف أكثر حذراً من التعاون مع أنقرة.

ومع ذلك، فإن صفقة يوروفايتر تايفون تمثل دليلاً واضحاً على تحول الفكر الاستراتيجي الأوروبي. يبدو أن أوروبا تدرك أخيراً أن تركيا ليست مجرد دولة جارة، بل هي شريك أساسي في الأمن الأوروبي، وأن دمجها في هياكل التعاون الإقليمي هو ضرورة حتمية.

سيبقى مستقبل هذه العلاقة رهناً باستمرار المصالح المشتركة وقدرة الطرفين على تجاوز الخلافات السابقة. لكن المؤشرات الحالية تشير إلى أننا نشهد بداية حقبة جديدة من الشراكة الاستراتيجية بين أوروبا وتركيا.

شاركها.
اترك تعليقاً