مساء يوم السبت، 30 أغسطس/ آب المنقضي، حطَّت طائرة رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي في مدينة تيانجين الشمالية بالصين، في أول زيارة له إلى جاره الآسيوي الأهم منذ أكثر من 7 سنوات، لحضور قمة منظمة شانغهاي للتعاون التي انضمَّت إليها دلهي عضوا كاملا عام 2017. أتى مودي قادما من الشرق، حيث كان في زيارة إلى اليابان لمناقشة عدد من مبادرات التعاون الاقتصادي مع رئيس الوزراء الياباني شيغيرو إيشيبا، وأبرزها استثمارات يابانية بقيمة 68 مليار دولار في الهند على مدار السنوات العشر المُقبلة.

من اليابان، الحليف الغربي الأبرز في آسيا، اتجه مودي نحو الصين، الغريم الأهم للولايات المتحدة، عابرا خطوط التنافس الجيوسياسي، بل ومتجاوزا أيضا التوتُّر القائم في علاقات بلاده ذاتها بالصين. كانت العلاقات قد توتَّرت بين دلهي وبكين على خلفية مناوشات حدودية عند جبال الهيمالايا عام 2020، إلى حد جعل البلديْن يُنفِّذان تعبئة عسكرية جزئية، حيث حشد كل منهما حوالي 50 ألف جندي إلى نقاط الاحتكاك، بالإضافة إلى وقف رحلات الطيران المُباشرة بينهما. ولم يكن ذلك سوى فصل في صراع ممتد على مدار عقود حول أطول حدود دولية لم يتفق على ترسيمها بشكل نهائي إلى اليوم.

في تيانجين التقي مودي أيضا بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، مُتجاهلا التحفُّظات الأوروبية على الاحتفاء بالرجل الذي غزا أوكرانيا، وضاربا بعرض الحائط تحفُّظات واشنطن على العلاقة القوية والتاريخية بين الهند وروسيا. لقد ورثت الهند شراكة عميقة مع موسكو منذ نهاية الحرب الباردة، لم يُغيِّرها سقوط الاتحاد السوفياتي، على عكس دول كثيرة أدارت ظهرها لروسيا في الثمانينيات والتسعينيات، ولا تزال الهند إلى اليوم المشتري الأكبر للسلاح الروسي في العالم، في حين تعد موسكو مورد الأسلحة الأهم للقوات المسلحة الهندية خلال السنوات السابقة.

في الوقت نفسه، استغلت دلهي صعود الصين وتوجُّس الولايات المتحدة من بكين كي تفتح باب العلاقات الإستراتيجية مع واشنطن، وتحصل على مكانة كبيرة في شبكة التحالفات الأميركية في منطقة المحيطيْن الهادي والهندي، بوصفها دولة يُمكن أن تسهم في احتواء الصين مقابل الحصول على مكاسب عسكرية واقتصادية من الولايات المتحدة وبريطانيا. ولكن بعد صعود دونالد ترامب، يبدو أن سياسة واشنطن تجاه الهند تشهد توتُّرا غير مسبوق منذ الثمانينيات، وهو ما يلقي حجرا في المياه الراكدة للعلاقات الدولية في جنوب وجنوب شرق آسيا.

ترامب يُعاقب الهند على النفط الروسي

استهل ترامب الأشهر الأولى في السلطة بسلسلة من التعريفات الجمركية فرضها على عشرات البلدان، أبرزها الهند التي نالت الجمارك الأعلى على الإطلاق بنسبة 50%، في ضربة واضحة للشراكة الهندية الأميركية.

أتت الجمارك عقابا للهند على علاقاتها الاقتصادية مع روسيا، وبالتحديد استيرادها للنفط الروسي. لطالما غضَّت الولايات المتحدة الطرف عن العلاقة الهندية الروسية وتفهَّمتها تحت الإدارات السابقة، فعلى سبيل المثال، منحت إدارة بايدن الهند في عام 2022 استثناء من العقوبات الأميركية المفروضة على شراء السلاح الروسي بموجب قانون كاتسا (CAATSA) الذي يفرض عقوبات واسعة على التعاملات الاقتصادية والعسكرية مع الدول التي تعتبرها الولايات المتحدة خصوما لها.

غير أن الإدارة الحالية لا يبدو أنها مهتمة بالقدر نفسه بالشراكات التي بنتها واشنطن في السابق، سواء مع الهند أو مع أوروبا. فقد التقى ترامب بالرئيس الروسي في ألاسكا لمناقشة مصير أوكرانيا والأمن الأوروبي، دونما اكتراث برأي القادة الأوروبيين أنفسهم في صراع يؤثر بالأساس على أوروبا. في حين انخرط في الوقت ذاته في مفاوضات تجارية مع الصين، تناقش فيها العملاقان بخصوص مصير علاقتهما الاقتصادية، دون أن يلتفت ترامب إلى أي من حلفاء بلاده في آسيا المُتوجِّسين من الصين، وعلى رأسهم الهند واليابان.

ويبدو أن ترامب عازم على المضي قدما سياسة الوصول لتسويات كبرى مع الكبار، مثل روسيا والصين، على حساب دول يراها أصغر حجما أو أقل تأثيرا أو أضعف من أن تتمتَّع بمزايا التحالف الأميركي دون مقابل، ومن بين سلسلة طويلة من حلفاء الولايات المتحدة حول العالم، فإن الهند تبدو الحلقة الأضعف، ليس فقط لأنها الأحدث انضماما إلى التحالفات الأميركية، على عكس اليابان وأوروبا، ولكن الأهم لأن اقتصاد الهند كان ولا يزال أقرب إلى الدول النامية منه إلى حلفاء الغرب التقليديين.

لقد أثبتت سياسات ترامب، التي تفاوض الكبار وتُقلِّص هامش المناورة أمام الدول المتوسطة أو الصغيرة، وتُركِّز بالأساس على استعادة البنية الصناعية الأميركية؛ أن تشكل تهديدا للعديد من دول العالم الثالث، وهو تهديد يؤثر على الهند بدرجة مماثلة، ومن ثمَّ يجعلها تعود للبحث عن مسار خاص بها في التفاعل مع الصين وروسيا، بل وتجاوز الانشغال بواشنطن ومحاولات الاستفادة من التحالف معها، نحو التفاعل مع جيرانها في آسيا وأفريقيا على غرار سياساتها القديمة حتى منتصف الثمانينيات.

ليست غريبة إذن الحملة التي يشنها الإعلام الهندي ضد سياسات ترامب، والمطالبات المتزايدة بأن تشق الهند مسارها وحدها، وأن تتجاهل الضغوطات الأميركية، وهو اتجاه عبَّر عنه مودي صراحة حين أعلنت رئاسة الوزراء عن نيتها استضافة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في زيارة رسمية إلى دلهي هذا العام، في رسالة تجاهل واضحة لواشنطن وما فرضته من جمارك عقابا على التعاون الاقتصادي مع روسيا، علاوة على لقاء بوتين ومودي بالفعل في تيانجين على هامش قمة شانغهاي.

وزير الخارجية الهندي سوبرامانيام جايشانكار في افتتاح منتدى الدوحة

الصين: مشكلة هندية خاصة

“هناك مشكلة عامة اسمها الصين. نحن لسنا البلد الوحيد الذي يُثار فيه الجدل حول الصين. اذهبوا إلى أوروبا واسألوهم عن أبرز نقاشات الأمن القومي أو الاقتصاد، ستجدونها عن الصين. اذهبوا إلى الولايات المتحدة، ستجدونهم منشغلين بالصين انشغالا كاملا، ولأسباب وجيهة.. إن الهند أيضا لديها مشكلة مع الصين.. لكنها مشكلة خاصة تفوق المشكلة العالمية العامة حيال الصين”.

بتلك الكلمات، تحدَّث صراحة وزير الخارجية الهندي سوبرامانيام جايشانكر على هامش منتدى قادة العالم الذي نظَّمته صحيفة “إيكونوميك تايمز” الهندية صيف عام 2024، مؤكدا أن بلاده لديها “مشكلة إقليمية” مع الدور الصيني، وهي مشكلة قديمة في الحقيقة تسبق الآثار العالمية لصعود الصين بعقود طويلة، منذ اندلاع الصراع العسكري الأول بين البلدين عام 1962.

لم تنزعج الصين من صراحة جايشانكر في الحقيقة وتجاهلتها، إذ كانت قد شاركت قبل تصريحه بأيام في اجتماعات للجنة الشؤون الحدودية بين الهند والصين، لخفض التوتُّرات القائمة منذ 5 سنوات. وبناء على ذلك، تفاعلت الهند إيجابيا وبدأت خطوات إعادة العلاقات مع الصين بالفعل طيلة الأشهر الماضية، بما في ذلك الاتفاق على إعادة الطيران المباشر بين البلدين.

بيد أن تفاعل الهند مع الصين من جديد لا يعني أنها قرَّرت فجأة تجاوز التهديد الذي ترى أن الصين تشكله على أمنها، لكنه يعني أنها باتت مُجبَرة على حل مشاكها الأمنية بالتفاعل مباشرة مع بكين، دون اللجوء إلى التحالف مع الولايات المتحدة، وهو تحالف يؤرق الصين بطبيعة الحال. على الجهة المقابلة، تبدو بكين أكثر رغبة في التفاوض مع الهند والتراجع عن سياسات تراها دلهي عدوانية في حال قررت الهند أن تسلك مسار التفاوض الثنائي بدلا من الاستناد على تحالف مع دولة كُبرى من خارج المنطقة برمتها، لا سيَّما إن كانت الولايات المتحدة التي لا تُرحِّب بكين بوجودها المُتمدِّد في شرق وجنوب آسيا.

ولذا يظهر التفاعل الاقتصادي بين العملاقيْن مُحفِّزا كافيا لاستعادة العلاقات الودية بينهما، خاصة أن الهند قد تحتاج إلى الصين اقتصاديا أكثر في ظل جمارك ترامب. على سبيل المثال، تعهَّدت الصين بمراعاة احتياجات الهند من المعادن الأرضية النادرة وبعض المُعدات المُستخدمة في حفر الأنفاق، التي تأثر استيرادها في الهند بسبب مواجهات عام 2020. وتُعَد الصين ثاني أكبر شريك تجاري للهند بعد الولايات المتحدة، لكن ميزان التجارة مُختل بشكل كبير لصالح الصين. غير أن مسألة الحدود التي لم تُرسَّم حتى اليوم، ودعم الصين المفتوح لباكستان خصم الهند اللدود، يظلان نقطتين عالقتين بين دلهي وبكين.

بعد نهاية اللقاء بين مودي وشي أمس الأحد (31 أغسطس/ آب)، صرَّح مسؤول الخارجية فيكرام ميسري بأن “الإرهاب” عبر حدود البلدين كان أحد الملفات التي ناقشها مودي مع شي، وأن الأول أكَّد أن البلديْن يعانيان من الإرهاب، وهي محاولة هندية لتأطير الصراع مع الجماعات المدعومة من باكستان بوصفه جزءا من مكافحة الإرهاب في المنطقة، وهي مهمة تنخرط فيها الصين أيضا بالنظر إلى توجُّسها من الجماعات الإسلامية المسلحة، لا سيَّما تلك التي تستقطب مسلمي الأويغور.

وكانت الصين قد صوَّتت ضد قرار يدين الهجمات الأخيرة في كشمير الهندية، التي أدت إلى نشوب المواجهات الأخيرة بين الهند وباكستان، ومن ثمَّ يبدو أن الهند تحاول جذب الصين إلى موقف أكثر توازنا في الملف الباكستاني، مقابل أن تتخذ دلهي بدورها موقفا أكثر توازنا بعيدا عن التحالفات الأميركية التي تحيط بالصين من كل جهة، بحيث يُحقق البلدان ضربا من التوازن الآسيوي دونما اللجوء لإقحام قوى غير آسيوية، وهي في الحقيقة سياسة لها جذور قديمة في علاقة البلدين، التي شكَّلتها 5 مبادئ قبل أن تنسفها الحرب بينهما عام 1962.

In this photo provided by Indian Prime Minister's Office, Indian Prime Minister Narendra Modi, left, and Chinese President Xi Jinping shake hand before their meeting on the sidelines of the Shanghai Cooperation Organization (SCO) summit in Tianjin, China Sunday, Aug. 31, 2025. (Indian Prime Minister's Office via AP)

المبادئ الخمسة: الذاكرة المضطربة للعلاقة الهندية الصينية

بعد أقل من 10 سنوات على إعلان استقلال جمهورية الهند (1947) وإعلان الجمهورية الشعبية في الصين (1949)، التقى رئيس الوزراء الهندي جواهر لال نهرو مع نظيره الصيني تشو إنلاي، وبدا أن الرجلين اللذين انخرط كلاهما في صراعه الخاص مع الاستعمار، قد شكَّلا صداقة عميقة ووضعا أسس علاقة وثيقة بين البلدين، استندت على ما أسموه “بانتش شيل”، أي المبادئ الخمسة، وتشمل الاحترام المتبادل للسيادة وعدم الاعتداء وعدم التدخل في الشؤون الداخلية والمساواة في المصالح والتعايش السلمي.

مُطمأنة إلى عُمق العلاقات الشخصية والثنائية مع الصين على حد سواء، ركَّزت الهند جهودها على مواجهة “التحدي الباكستاني” الذي أحاط بها من الشرق والغرب، حيث كانت بنغلاديش آنذاك لا تزال جزءا من باكستان (وكانت تُعرف بباكستان الشرقية). وفي خضم انشغالها بمعركتها الإقليمية، اتخذت الصين قرارا براغماتيا قاسيا لحسم الخلافات الحدودية العالقة مع الهند، وشنَّت هجوما عسكريا خاطفا عام 1962، ألحقت خلاله هزيمة مُذلة بالجيش الهندي، ثم انسحبت مُحتفظة بإقليم أكساي تشين حتى يومنا هذا.

كانت التوتُّرات السياسية قد بدأت مطلع الخمسينيات حين أعلنت الصين ضمِّ هضبة التبِت بشكل نهائي، مُتجاهلة علاقتها الثقافية والتاريخية الوطيدة بالهند. ولكن الزعيم الهندي نهرو لم يضع في حساباته أن تلجأ الصين إلى تأمين الهضبة بعمل عسكري ضد بلاده، لا سيَّما أن المبادئ الخمسة أُعلِنَت بعد بضع سنوات عام 1954، فيما بدا أنه رغبة صينية بألا تؤثر الخلافات الحدودية على العلاقة السياسية والاقصادية بين البلدين الأكبر في آسيا.

لقد حملت الهند على عاتقها، ليس إنجاح العلاقة مع الصين فحسب، بل والترويج للنظام الصيني في المحافل الدولية في مُستهل الحرب الباردة بوصفه المُمثل الشرعي للصين، في وقت رفضت فيه كل الدول الغربية أن تعترف بالصين الشعبية بسبب نظامها الشيوعي، وأصرَّت فيه على الاعتراف بالجمهورية الصينية الصغيرة في تايوان، مانحة مقعد “الصين” في الأمم المتحدة لدولة تايوان الصغيرة (وهي سياسة تغيَّرت في نهاية المطاف بعد انفتاح بكين وواشنطن عام 1972 واعتراف الأخيرة بالجمهورية الشعبية عام 1979).

حين فرَّ الزعيم الروحي البوذي في التِبِت، الدالاي لاما، إلى الهند عام 1959، واستُقبِل هناك استقبالا جيدا، أبدى الزعيم الصيني ماو تسي تونغ قلقه من السياسات المستقبلية للهند، وحين نجحت الهند في خطب ود الاتحاد السوفياتي، الذي انحاز للموقف الهندي، شعرت الصين بأن محاصرتها دبلوماسيا حيال التِبِت يُمكن أن تؤدي للضغط عليها مستقبلا من الهند والاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة معا، ومن ثمَّ بدأت تفكر في شن ضربة استباقية ضد الجيش الهندي.

في مطلع الستينيات، بدأت الأصوات تتعالى داخل الجيش الهندي وتضغط على نهرو من أجل اتخاذ موقف صارم من الدوريات العسكرية الصينية التي تجاهلت الخلافات الحدودية، واتخذت مواقع متقدمة دونما تنسيق مع الهند، وبالفعل بدأت الهند هي الأخرى دوريات عسكرية نتجت عنها بعض الاحتكاكات بين الطرفين، سرعان ما دفعت الصينيين إلى تنفيذ الضربة الاستباقية التي خطَّطوا لها في وقت سابق، ومن ثمَّ لحقت بالجيش الهندي هزيمة مُذلِّة في معركة لم تدُم سوى بضعة أسابيع.

لعل هزيمة الهند عام 1962 قد لعبت دورا مُشابها ولو جزئيا لهزيمة 1967 في مصر، فقد أحدثت مُراجعات جذرية لمثالية سياسات عدم الانحياز، ودفعت الهند إلى تحديث جيشها وتطويره بشكل أكثر جدية، كما أنها شكَّلت فعليا نهاية هيمنة أفكار نهرو على الدبلوماسية الهندية، الذي وافته المنية بعد أقل من عامين من الهزيمة، حيث تدهورت صحته على وقع الهزيمة بشكل مُتسارع.

وقد قرَّرت ابنة نهرو، إنديرا غاندي، التي تولَّت رئاسة الوزراء عام 1966 وهيمنت على الحياة السياسية حتى اغتيالها عام 1984، أن تُعزِّز التحالف مع السوفيات بشكل كامل، لا سيَّما وقد توتَّرت علاقتهم ببكين في تلك الفترة، مما أدى لتدهور العلاقات مع الولايات المتحدة التي وصلت إلى أدنى مستوياتها آنذاك، لكنه سمح للهند بتسجيل أول انتصار عسكري كاسح ضد باكستان عام 1971، الذي أفضى إلى تأسيس دولة بنغلاديش بالانفصال عن باكستان.

مودي: عودة حذرة لميراث نهرو

“إن العالم يخوض غمار تحوُّل لا يحدث إلا مرة كل 100 عام.. والهند والصين الدولتان الناميتان الكبريان بتعداد سكاني يفوق 2.8 مليار إنسان.. ومن ثمَّ يجب أن تُظهِرا المسؤولية، وتضربا المثل في وحدة الدول النامية، وتحفيز نظام عالمي متعدد الأقطاب، وعلاقات دولية ديمقراطية أكثر”، هذا ما قاله وزير الخارجية الصيني وانغ يي، مخاطبا نظيره الهندي جايشانكر.

مرة أخرى، تعود الصين إلى محاولة فتح صفحة دبلوماسية جديدة مع الهند، بالإشارة إلى ماضي الصداقات العميقة بين البلدين، حيث أشار الرئيس شي أمس إلى المبادئ الخمسة في اجتماعات أمس، مؤكدا ضرورة أن تمضي العلاقات بين الهند والصين قُدُما مهما كانت الخلافات الحدودية، كما أشار في وقت سابق من العام الماضي إلى ما اعتبره ضرورة تطوير رقصة بين “التنين والفيل”، في توصيف نمطي بعض الشيء لعلاقة البلدين، مُستخدما الرمزين التقليديَّيْن للصين والهند، وذلك في كلمة بمناسبة مرور 75 عاما على تدشين العلاقات بين البلدين.

تبدو الصين في ذلك التوقيت بالتحديد راغبة في خلق دينامية إقليمية تقليدية مع الهند، أولا التزاما بمبادئها القديمة ورغبة منها في أن تكون العلاقة بين دلهي وبكين علاقة آسيوية صِرفة دونما تدخُّلات خارجية، وثانيا لاعتبارات براغماتية بحتة، وهي أن موازين القوى تميل في الحقيقة لصالح الصين. بدورها، تُفضِّل الهند أن تمضي في إطار الدينامية الإقليمية حرصا على الشراكة الاقتصادية الأهم في آسيا، وهي شراكة تُشكِّل أهمية كبيرة للبلدين على السواء.

أضف لذلك أن اعتماد الهند على تحالفات مضطربة، مثل التحالف مع الولايات المتحدة في المحيط الهندي، أو التحالف الرُباعي (كواد) مع واشنطن واليابان وأستراليا؛ لم يمنح الهند التوازن الذي أرادت، بل أفقدها ثقة الصين، وكرَّس إستراتيجية بكين في التحالف بشكل مفتوح أكثر مع خصوم الهند مثل باكستان، ومن ثمَّ يبدو فإن صعود إدارة ترامب، وتوتُّر العلاقات الاقتصادية معها، والاضطراب الذي تشهده التحالفات الغربية، يدفع الهند من جديد نحو شق طريقها الخاص في تسوية ملفاتها الإقليمية، بما في ذلك العلاقة مع الصين.

تظل العلاقة الثنائية الأهم في آسيا بانتظار أن تُثمر التحوُّلات الأخيرة، التي سرَّعتها جمارك ترامب وإن لم تخلقها بالكُلية، بالنظر إلى أن العلاقات في تحسُّن بالفعل منذ الصيف الماضي، فيما يبدو أنه قناعة تشكَّلت لدى الهند بأن الانخراط في التحالف الغربي يزيد العلاقة سوءا دون أن يُدعِّم الأمن القومي الهندي بالشكل الذي تصوَّرته الهند، التي فتحت باب التعاون العسكري والنووي مع واشنطن قبل حوالي عقدين، لتُفاجأ منذ أشهر بأداء عسكري متواضع أمام باكستان المدعومة صينيا، وعزوف أميركي عن اتخاذ أي موقف حاسم داعم للهند.

بينما يُعرب صناع القرار الهنود عن تفاؤلهم بتدشين دينامية جديدة مع الصين، لا يزال البعض يُشدِّد على عدم تجاهل التهديد الفعلي الذي طالما شكَّلته بكين في الشمال، ودفعها في يوم من الأيام إلى مفاجأة الهند بهجوم عسكري خاطف وتجاهل المبادئ الخمسة، وهو أمر يُمكن أن يتكرر في أي لحظة. ولا يزال السياسيون المحسوبون على الحركة القومية الهندوسية يُذكِّرون خصومهم من حزب المؤتمر (الكونغرس) بسذاجة قائده التاريخي نهرو بين الحين والآخر، حين يشتغل الاستقطاب الداخلي تحت قبة البرلمان الهندي.

بيد أن ساسة الحزب القومي الهندوسي الحاكم (بهارتيا جاناتا) لربما اكتشفوا هم أيضا سذاجة الاعتماد على تحالف أميركي أو غربي لحماية الهند على الأمد البعيد، ولربما يُقرِّون هذه الأيام، ولو سِرّا، بأن شق طريق مستقل لا ينخرط في تحالفات عسكرية صريحة، يعد واحدا من مواريث نهرو التي يتوجَّب استعادتها بالكامل، بما في ذلك العلاقة مع الصين، وذلك لأن “المشكلة الصينية” في دلهي، مشكلة إقليمية قديمة كما وصفها جايشانكر، ولا علاقة لها بالضرورة بمُعضلة صعود الصين الأحدث التي تؤرق الساسة في واشنطن وسائر العواصم الغربية.

شاركها.
اترك تعليقاً