في خضم التطورات الجيوسياسية المتسارعة، كشفت مجلة لوبوان الفرنسية عن وثيقة استراتيجية للأمن القومي الأمريكي تثير جدلاً واسعاً، وتلقي بظلال من الشك حول مستقبل العلاقات الأمريكية الأوروبية. الوثيقة، التي نُشرت على موقع البيت الأبيض، تقدم رؤية صادمة لأوروبا، وتصفها بأنها كيان في حالة تدهور حضاري وسياسي واقتصادي، وتحتاج إلى تدخل عاجل لإنقاذها. هذه الرؤية، التي تتسم بالتشاؤم، تثير تساؤلات حول الأجندة الخفية للإدارة الأمريكية، ومدى استعدادها للتدخل في الشؤون الداخلية للقارة العجوز.

تقييم أمريكي قاسٍ لأوروبا: هل نشهد نهاية حقبة؟

تعتبر الوثيقة الأوروبيين حلفاء في حالة تدهور، وتتوقع اختفاء القارة ككيان متميز خلال عقدين أو ثلاثة. هذا التقييم القاسي يستند إلى انخفاض حصة أوروبا من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، من 25% في عام 1990 إلى 14% حاليًا. وتتهم الوثيقة المؤسسات الأوروبية، بما في ذلك الاتحاد الأوروبي، بتقويض السيادة الوطنية والحرية السياسية. بالإضافة إلى ذلك، ترى أن سياسات الهجرة الحالية “تغير القارة وتنتج النزاعات”، وتدين ما تسميه بانتشار الرقابة وتراجع حرية التعبير.

تراجع الهوية الوطنية ومعدلات المواليد

لا تتوقف الوثيقة عند هذا الحد، بل تشير إلى انهيار معدلات المواليد وتلاشي الهوية الوطنية في أوروبا. وتذهب إلى حد التأكيد أن أوروبا ستكون “غير قابلة للتعرف” خلال 20 عامًا إذا استمر الوضع على ما هو عليه. هذا التصوير التشاؤمي يعكس مخاوف أمريكية عميقة بشأن مستقبل أوروبا، ويشير إلى رغبة في إعادة تشكيل القارة وفقًا لمصالح واشنطن. السياسة الأوروبية الحالية، من وجهة النظر الأمريكية، تحتاج إلى “صدمة علاجية” لإنقاذها من الانهيار.

أوكرانيا وروسيا: نقطة خلاف رئيسية في الاستراتيجية الأمريكية

الأمر الأكثر حساسية في الوثيقة يتعلق بالحرب في أوكرانيا. تظهر الوثيقة رغبة واشنطن في إنهاء الحرب بسرعة من أجل استعادة الشراكة مع روسيا، وهو ما يثير انتقادات حادة لألمانيا التي قطعت العلاقات مع موسكو، مما زاد من تبعيتها الاقتصادية. هذا الموقف يعكس تحولاً في السياسة الأمريكية، ورغبة في إعادة بناء العلاقات مع روسيا على حساب المصالح الأوروبية. الأمن القومي الأمريكي يرى في استمرار الحرب في أوكرانيا تهديدًا لمصالحه الاستراتيجية.

اتهام الحكومات الأوروبية بخيانة شعوبها

الأكثر إثارة للجدل هو اتهام الوثيقة للحكومات الأوروبية بخيانة شعوبها. تزعم الوثيقة أن أغلبية الأوروبيين يريدون السلام في أوكرانيا، لكن هذا تمنعه حكومات أقلية غير مستقرة “تدوس المبادئ الديمقراطية الأساسية وتقمع المعارضة”. بذلك، تقدم واشنطن نفسها كمدافعة عن الإرادة الشعبية الأوروبية ضد “نخب فاسدة ومنفصلة عن شعوبها”. هذا التصوير يهدف إلى تبرير التدخل الأمريكي في الشؤون الأوروبية، وإعادة تشكيل القارة وفقًا لمصالح واشنطن.

إعادة هيكلة شاملة لأوروبا: رؤية ترامبية

تضع الوثيقة سبع أولويات لأوروبا، تشمل إنهاء الحرب في أوكرانيا وفق شروط موسكو إذا لزم الأمر، وتعزيز قدرة أوروبا على الاعتماد على نفسها، ودعم الحركات المناهضة للنظام السياسي القائم، وفتح الأسواق أمام المنتجات الأمريكية، وتنمية “الأمم الصحية” في أوروبا الوسطى والشرقية والجنوبية، وإعادة تعريف دور حلف شمال الأطلسي (ناتو)، والتواؤم مع واشنطن في مواجهة الصين اقتصاديًا وتقنيًا وأمنيًا.

الهدف النهائي، وفقًا للوثيقة، هو دفع أوروبا إلى أن تصبح مستعمرة أمريكية تتخلى عن سيادتها وتخضع لسيطرة واشنطن، مع تقييد الهجرة وتشجيع القوى السياسية الوطنية ضد النخب الليبرالية. هذه الرؤية، التي يصفها البعض بأنها “ترامبية”، تعكس رغبة في إعادة بناء النظام العالمي وفقًا لمصالح الولايات المتحدة. الاستراتيجية الأمريكية الجديدة تركز على تعزيز النفوذ الأمريكي في أوروبا، وتقويض النفوذ الصيني المتزايد.

مقارنة مع الولايات المتحدة: نظرة ذاتية

يختتم النص بمقارنة مع الولايات المتحدة، موضحًا أن تطبيق نفس المعايير على أمريكا نفسها سيكشف صورة قاتمة، من استقطاب سياسي يهدد الوحدة الوطنية، وعنف مسلح متفش، وتراجع في الحقوق المدنية والحريات، إلى حظر للكتب وتعليم التاريخ، وهجوم على حق النساء في الإنجاب، فضلا عن سياسات اقتصادية اتبعت فيها الشركات الأميركية نقل صناعاتها إلى الخارج 40 عاما قبل الانتباه إلى خطرها. لكن الفرق الرئيسي هو أن الحكومات الأوروبية لن تُصدر وثائق رسمية كهذه، ربما لأسباب دبلوماسية أو لإدراكها حجم تبعيتها للولايات المتحدة.

في الختام، تقدم الوثيقة رؤية ترامبية لأوروبا، باعتبارها قارة متدهورة لكنها قابلة للإصلاح، وتحتاج إلى إعادة هيكلة شاملة لتصبح شريكا تابعا للولايات المتحدة. هذه الرؤية تثير تساؤلات حول مستقبل العلاقات الدولية، ومدى استعداد أوروبا لقبول هذا الدور الجديد. من الضروري إجراء حوار مفتوح وصريح حول هذه القضايا، لضمان مستقبل مستقر ومزدهر للقارة الأوروبية. هل ستنجح الولايات المتحدة في تحقيق أهدافها؟ وهل ستتمكن أوروبا من الحفاظ على سيادتها واستقلالها؟ هذه هي الأسئلة التي ستحدد مستقبل العلاقات الأمريكية الأوروبية في السنوات القادمة.

شاركها.
اترك تعليقاً