منذ أن فرض الاحتلال البريطاني سيطرته على مصر عام 1882، شهدت البلاد تصاعدًا في المقاومة الوطنية بأشكال متعددة. لم تقتصر هذه المقاومة على الاحتجاجات والضغط السياسي، بل امتدت لتشمل عمليات مسلحة ضد رموز الاحتلال والمتعاونين معه. ومع إدراك المصريين المتزايد لفشل الأساليب السلمية، بدأت مجموعات شبابية وتنظيمات سرية في تبني الاغتيالات السياسية كوسيلة لزعزعة الاستقرار وإظهار قوة المقاومة في وجه القمع البريطاني. هذه الفترة المظلمة من تاريخ مصر مليئة بالصراعات والتحولات، وتستحق الدراسة والتحليل لفهم جذور الحركات الوطنية اللاحقة.

خلفية سياسية لظهور الاغتيالات السياسية في مصر

في أعقاب الاحتلال عام 1882، سعت القوى الوطنية المصرية إلى استعادة الاستقلال الذاتي، لكن جهودها اصطدمت بسياسات الاحتلال المتصلبة. شعر المصريون بالإحباط من الوعود الكاذبة والتلاعب السياسي، مما أدى إلى تنامي الشعور باليأس. كان اغتيال بطرس غالي باشا عام 1910، رئيس الوزراء الذي وافق على اتفاقية تمنح بريطانيا نفوذًا في السودان، نقطة تحول رئيسية. أثار هذا الاغتيال غضب الحركة الوطنية وأظهر أن العنف يمكن أن يكون وسيلة للتعبير عن المعارضة.

سلسلة الاغتيالات والمحاولات الفاشلة

بعد اغتيال بطرس غالي، تزايدت محاولات استهداف المسؤولين والوزراء المصريين الذين تعاونوا مع الإنجليز، وكذلك الموظفين البريطانيين. فشلت محاولة اغتيال السلطان حسين كامل، لكن الاغتيالات استمرت. في 18 فبراير 1922، قُتل مستر براون، المراقب العام الإنجليزي لوزارة المعارف المصرية، أثناء مغادرته مقر الوزارة. لاحقًا، في 24 مايو 1922، قُتل مستر كييف، وكيل حكمدار القاهرة، خارج مقر المحافظة في باب الخلق. الأمر اللافت في هاتين الجريمتين هو عدم القبض على الجناة، مما زاد من الإحساس بالعجز لدى السلطات البريطانية.

اغتيال السير لي ستاك: ذروة المواجهة

شكل اغتيال السير لي ستاك في نوفمبر 1924 ذروة هذا المسار المتصاعد من المواجهة. كان السير لي ستاك القائد العام للجيش المصري الخاضع للاحتلال البريطاني، واعتبرت وفاته رسالة قوية للحركة الوطنية المصرية. وقع الاغتيال في شارع الطرفة الغربي (شارع إسماعيل أباظة حاليًا) أثناء عودة السير لي ستاك إلى منزله في الزمالك. ألقى المهاجمون قنبلة وأطلقوا النار على سيارته، مما أدى إلى إصابته بجروح بالغة ووفاته في اليوم التالي. أثار هذا الحادث حالة من الذعر في البلاد، وأدى إلى رد فعل بريطاني عنيف.

التوتر السياسي وقضية السودان

كانت الفترة التي سبقت اغتيال السير لي ستاك مشحونة بالتوتر السياسي، خاصة بسبب الخلاف المتصاعد بين رئيس الحكومة سعد زغلول والملك فؤاد الأول. كما لعبت قضية السودان دورًا كبيرًا في تأجيج المشاعر الوطنية. كانت هناك دعوات قوية في مصر والسودان لبقاء البلدين تحت راية واحدة، وظهرت حركة “اللواء الأبيض” في السودان بقيادة علي عبد اللطيف، والتي كانت تهدف إلى تحقيق الوحدة ومقاومة السيطرة البريطانية. هذا التوتر الداخلي والخارجي ساهم في خلق بيئة مواتية لظهور الحركات السرية وتنفيذ العمليات المسلحة.

رد فعل بريطانيا والإنذار القاسي

بعد اغتيال السير لي ستاك، اتهمت بريطانيا سعد زغلول وحكومته بتأجيج المشاعر المعادية لبريطانيا. قدم اللورد إدموند ألنبي، المندوب البريطاني السامي في مصر، إنذارًا قاسيًا للحكومة المصرية، تضمن مطالبًا مهينة للسيادة المصرية، مثل تقديم اعتذار رسمي، واعتقال المنفذين، وحظر التجمعات السياسية، ودفع تعويضات مالية كبيرة. كما طالب ألنبي بسحب القوات المصرية من السودان.

استقالة زغلول وتداعيات الاغتيال

رفض سعد زغلول الاستجابة لجميع مطالب ألنبي، وقدم استقالته في 29 يونيو 1924. لكن الملك فؤاد تجاهل الاستقالة وأبقى زغلول في منصبه. في النهاية، رضخ زغلول لبعض المطالب، مثل دفع التعويضات، لكنه رفض سحب القوات المصرية من السودان. أدى ذلك إلى احتلال بريطانيا لجمرك الإسكندرية، وإسقاط حكومة زغلول وتشكيل حكومة جديدة بقيادة أحمد زيور باشا، الذي وافق على جميع مطالب الإنجليز وسحب القوات المصرية من السودان. كان هذا بمثابة جلاء مصر عسكريًا ومدنيًا عن السودان.

حركة اليد السوداء ومحاكمة الفدائيين

كانت “حركة اليد السوداء” من بين التنظيمات التي لعبت دورًا في تنفيذ الاغتيالات السياسية. تأسست هذه الحركة على يد عبد الفتاح عنايت، وهو طالب حقوق رأى في العنف وسيلة لمواجهة الاحتلال. قامت الحركة بتنفيذ عملية اغتيال السير لي ستاك، وتم القبض على عدد من أعضائها. أجريت محاكمة خاصة في مايو 1925، وأصدرت المحكمة حكمًا بإعدام ثمانية من الفدائيين، بينما حُكم على السائق بالسجن. تم تخفيف عقوبة عبد الفتاح عنايت إلى السجن المؤبد بفضل عفو ملكي.

الدروس المستفادة من هذه الحقبة

تُظهر قضية اغتيال السير لي ستاك والعمليات المشابهة التي شهدتها مصر في تلك الفترة، أن المقاومة الوطنية يمكن أن تتخذ أشكالًا مختلفة، بما في ذلك العنف. كما تبرز أهمية الوحدة الوطنية في مواجهة الاحتلال، وتكشف عن مدى استعداد القوى الوطنية للتضحية من أجل استقلال البلاد. على الرغم من أن هذه العمليات لم تحقق الاستقلال الفوري، إلا أنها ساهمت في إضعاف النفوذ البريطاني وتهيئة الظروف لتحقيق الاستقلال في نهاية المطاف. تظل هذه الحقبة من تاريخ مصر مصدر إلهام للأجيال القادمة في سعيها نحو الحرية والعدالة.

شاركها.
اترك تعليقاً