غزة – لم يسأل الجندي الإسرائيلي المتحصّن داخل دبابته عن ديانة المسنّة الثمانينية إلهام فرح قبل أن يدهسها قبالة ملعب فلسطين في قلب غزة وهي تحاول لاهثة عبور الطريق أثناء نزوحها من المنطقة المحاصرة خلال الأشهر الأولى للحرب. ولم يتحرّ الطيّار الإسرائيلي هوية الذين احتموا بجدران كنيسة بيرفيليوس حين أسقط قنابله على رؤوس المسيحيين فيها، فقتل أكثر من 18 شخصا منهم دفعة واحدة. كما لم يتوقف القناص الإسرائيلي ليتأكد من ديانة الشابين اللذين تجوّلا في ساحة كنيسة دير لاتين قبل أن يرديهما رصاصه قتلين. هذه المشاهد المروعة، وغيرها الكثير، تجسد واقعًا أليمًا يعيشه سكان غزة، حيث لا يعرف القتل ولا الدمار دينًا ولا هوية.
حرب على الإنسانية في غزة
استهدفت إسرائيل بجرائمها الغزيين ككتلة واحدة ودون تمييز، فكان القطاع كلّه في مرمى الفناء ذاته طوال عامين كاملين من الحرب. وقف الغزيون كجسد واحد في مواجهة المصير نفسه، ورزحوا تحت دائرة الألم والقتل والحصار والتجويع، ولسان حالهم يقول إن البقاء أو الموت في قطاع غزة لا يمكن أن يكون إلا جماعيا. لم تفرق القذائف بين مسجد وكنيسة، ولا بين طفل وشيخ. هذه ليست مجرد حرب عسكرية، بل هي حرب على الإنسانية، تهدف إلى تدمير كل أشكال الحياة في القطاع.
تضحيات المسيحيين في غزة
قضى أكثر من 60 مسيحيا في حرب الإبادة، إما باستهدافات مباشرة، وإما جراء الحصار والإغلاق حيث لا علاج ولا دواء، تماما كما حدث لآلاف المسلمين الذين ظلّوا في المدينة. كنيسة بيرفيليوس، التي استقبلت العشرات من المدنيين الباحثين عن مأوى، تحولت إلى مقبرة جماعية. هذا الاستهداف المتعمد للمسيحيين، على الرغم من قلتهم في غزة، يثير تساؤلات حول الدوافع الحقيقية وراء هذه الحرب. الوضع الإنساني للمسيحيين في غزة يزداد سوءًا مع كل يوم يمر، حيث يعانون من نقص حاد في الغذاء والدواء والمأوى.
التعايش والتكافل في ظل الحرب
ومع ذلك، ظل الناس يتقاسمون ما تيسّر من ضروريات الحياة، حيث فتحت الكنائس أبوابها للنازحين المسلمين، وتشارك الجميع اللقمة والمأوى. برزت روح التعايش والتكافل في ذروة الجحيم، واستمرت المؤسسات الصحية والإغاثية المسيحية في تقديم خدماتها بلا تفرقة. هذا التلاحم الاجتماعي هو ما يميز الشعب الفلسطيني، وهو ما يحاول الاحتلال كسره. الكنائس في غزة لم تكن مجرد أماكن للعبادة، بل أصبحت مراكز إيواء ومساعدة للمحتاجين، بغض النظر عن دينهم أو انتمائهم. هذا المشهد يعكس قيم التسامح والإنسانية التي يتشبث بها الغزيون رغم كل الظروف.
عيد الميلاد في غزة: احتفال على استحياء
وسط هذا الوجع الثقيل، حلّ عيد الميلاد هذا العام على 516 مسيحيا في غزة حيث أقاموا احتفالات خجولة، بلا زينة ولا أضواء، “فالمدينة لا تزال بخرابها وفقدها حزينة”، كما يقولون. دخل بطريرك الأراضي المقدسة بيير باتيستا ليلة 21 ديسمبر/كانون الأول الجاري إلى غزة، ليعلن من قلبها عبر قدّاس احتفالي متواضع بدء الأعياد المسيحية، في محاولة صغيرة لانتزاع لحظة حياة من قلب مدينة لم تشف جروحها بعد. هذا الاحتفال الرمزي هو رسالة أمل للعالم، بأن الحياة لا تزال ممكنة حتى في أصعب الظروف.
صلاة القداس في كنيسة دير لاتين
حضرت الجزيرة نت خلال صلاة القدّاس الأولى بحسب التقويم الغربي ليلة 25 ديسمبر/كانون الأول، والذي أقامته كنيسة دير لاتين (العائلة المقدّسة) شرق مدينة غزة، وهي الكنيسة المركزية التي تُقام فيها احتفالات المسيحيين الكاثوليك في القطاع. بدت الكنيسة كأنها مثقلة بذكريات عامين كاملين من الحزن، بلا زينة تقريبا ولا مظاهر احتفال، واقتصرت الطقوس على الشعائر الدينية الخالصة. في الداخل، مقاعد فارغة لشهداء قضوا داخل هذا المكان وخارجه، وكأن المصلين يحملون آلام الحزن والإبادة. وبصوت خافت تُقرأ التراتيل، في وقت تتدلّى فيه على الجانبين زينة متواضعة لا تشبه أيّا من ملامح الاحتفال في سنوات السلم. القداس بدا أقرب إلى صلاة صمود جماعي، ومحاولة أخيرة للحفاظ على الطقوس الدينية.
قصص من قلب المعاناة
في الساحة الخارجية للكنيسة، كانت هناك قصص مؤثرة تعكس حجم المعاناة التي يعيشها سكان غزة. جلس ديمتري بولس شارد الذهن، وحيدا على أحد المقاعد الخشبية، لا يبدو على ملامح وجهه انشراح العيد، قائلا “لقد أردتني الحرب وحيدا، عشتها بمفردي”. ورغم أنه مزدوج الجنسية وكان قادرا على الخروج من غزة، فإنه رفض تركها، معبرا عن حبه العميق لهذه الأرض. نجلاء سابا (67 عاما) كانت تحاول كسر وحدتها بإجراء اتصال فيديو هاتفي مع عائلتها في الضفة الغربية، تشاركهم فرحة العيد من بعيد. تستعيد نجلاء الأيام التي كانت فيها العائلات المسيحية تسافر بسهولة إلى بيت لحم للاحتفال بالأعياد، متمنية أن يعود ذلك اليوم.
مستقبل المسيحيين في غزة
الفرقة القسرية والتشتيت المتعمد من إسرائيل يرى الغزيون أنها تمنعهم من الالتئام. تُضيّق إسرائيل على المسيحيين حتى قبل الحرب، وترفض منح الكثيرين منهم تصاريح للعبور إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة. ورغم ذلك، تصرّ نجلاء على البقاء في غزة، قائلة “غزة بالنسبة لي كل شيء، قلبي وروحي وعيني”. هذا الإصرار على البقاء هو دليل على قوة الإرادة والصمود لدى سكان غزة. الوضع في غزة يتطلب تدخلًا دوليًا عاجلًا لإنهاء الحصار ووقف إراقة الدماء، وضمان حقوق جميع السكان، بمن فيهم المسيحيون.
ورغم الخراب وشظايا الروبوتات الإسرائيلية المفخخة التي لا تزال تصل الكنيسة من الحدود الشرقية، وكأنها تذكر الجميع بأن الحرب لم تنته بعد، ظلّت غزة تقول على طريقتها “حتى من تحت الرماد يمكن لميلاد جديد أن يبدأ”. هذه الكلمات هي خلاصة ما يعيشه سكان غزة، وهي رسالة أمل للعالم أجمع. إن مستقبل غزة يعتمد على قدرة شعبها على التمسك بحقوقه، وعلى تضامن المجتمع الدولي معه.















