جماعة أغواطيم- مباشرة بعد الزلزال العنيف بادر كثير من الأطباء المغاربة -الذين يعيشون في دول أوروبية- بالانتقال إلى المنطقة المنكوبة لتقديم يد المساعدة للمتضررين، أحدهم الدكتور زهير لهنا الذي يرأس جمعية فرنسية لتقديم العون الطبي.

وتنشط تلك الجمعية في كل المناطق التي تواجه كوارث أو أزمات، فقد زار الطبيب المغربي دولا عدة، بينها اليمن وسوريا وغزة وليبيا وأفغانستان والهند والكونغو، وهو الآن في جبال الأطلس.

إذا أردت أن تتواصل مع الدكتور زهير وفريقه الطبي هذه الأيام يجب أن تنتظر ساعات طويلة، وذلك حتى ينزل من أحد الدواوير المعلقة في جبال الأطلس إلى أي منطقة تتوفر فيها خدمة تغطية شبكة الاتصال.

“أمس كنا بدوار إغيل مركز الزلزال العنيف، واليوم سنصعد إلى دوار أمرزوازت بجماعة أغواطيم، وغدا إن شاء الله سنتوجه مجددا إلى منطقة تلات نيعقوب”، هكذا بادرنا الدكتور زهير بالحديث، وكان من اللازم إذن أن نسرع بالذهاب إلى دوار أمرزوازت (نحو 70 كيلومترا جنوبي مراكش)، لنتابع جولة الفريق الطبي ونطلع على الخدمات الصحية التي يقدمها لأهالي هذه الدواوير المنكوبة، قبل أن “يتيه” منا في دوار آخر.

قطعنا طريقا ضيقا غير ممهد معلقا في الجبال، توشك أن تهوي في منحدر سحيق إن انحرفت بك السيارة قليلا، وتخبرك بعض المنازل المهدمة وكذلك الأحجار الضخمة التي سقطت من الجبال المحيطة على الطرق الضيقة المتشعبة أن زلزالا بقوة 7 درجات مر من هنا.

دوار “الطيبين”

من أعلى الجبل يبدو دوار أمرزوازت لوحة جميلة رسمت يد فنان حكيم بيوتها الطينية البسيطة بشكل متراص وكأنها تحضن بعضها البعض حتى لا تقع في فجاج الجبال المحيطة.

كما تظهر بوضوح صومعة مسجدها البسيط من علٍ، فتضفي على المنظر جمالا وخشوعا يليق بدوار يشتهر -ككل إقليم الحوز ومنطقة الأطلس- بحفظ وتحفيظ القرآن الكريم.

يخبرنا حسن إدمبارك -الذي طبعت سنين العمر الطويلة علاماتها على وجهه الأسمر- أن هذا الدوار يقع في حضن جبل يسمى محليا “تيحلاتي” ويعني “الطيبين”.

“اسم على مسمى” كما تؤكد فاضمة (فاطمة) وهي ناشطة مجتمعية تنحدر من هذا الدوار الذي جاءت إليه من مدينة مراكش لتقديم المساعدة لسكان الدوار الذين تعتبرهم عائلتها وأهلها.

خلال توجهه إلى هذا الدوار تاه الدكتور زهير لهنا وفريقه الطبي في الطرق الفرعية بهذه القمم الشاهقة، مما منحنا الوقت للتواصل مع سكان هذا الدوار الوديع والاستماع إلى شجونهم وآهاتهم.

بمجرد وصولنا استقبلونا بترحيب كبير، وسارعوا إلى نصب طاولة تضم كؤوس الشاي المغربي المنعنع وما ينتجونه من زيت زيتون وعسل وزبدة محلية، فخلق الكرم طبع أصيل لدى أهل هذه القرى ويلفت انتباه كل من يزورها.

حياة بسيطة

“بيوتنا تهدمت”، هذا ما تسمعه هذه الأيام في كل القرى والدواوير التي تمر بها في إقليم الحوز، وإن كان دوار أمرزوازت نجا من الكارثة فلم تقع فيه وفيات، فبيوته الطينية -التي هي أغلى ما يملكه هؤلاء القرويون- هي ما بين مهدمة أو مصابة بتشققات خطرة، فلم تعد صالحة للسكن، لذلك يعيش سكانها هذه الأيام تحت خيام نصبت بين الأشجار.

يخبرنا محمد الصغير -وهو رئيس جمعية محلية للتنمية الاجتماعية- أن سكان الدوار (عددهم يتجاوز 400 شخص) يعيشون أساسا على ما يجلبه أبناؤهم الذين يعملون في المدن القريبة من مبالغ مالية متواضعة، وذلك إلى جانب مداخيل بسيطة نظير بيع منتوجاتهم الفلاحية المحلية، خاصة التفاح وبعض الخضروات، بينها البصل.

ففي هذا الدوار الجبلي المتواضع تنتشر قطع أرضية فلاحية بسيطة هي أقرب إلى زراعة معيشية منها إلى مشاريع مدرة للدخل يستغل السكان مداخيلها المتواضعة لشراء ما يحتاجون من ملابس وغذاء، ويأتي إليهم بعض التجار فيشترون منهم منتوجاتهم الفلاحية بأبخس الأثمان ثم يبيعونها في المدن القريبة بمبالغ مضاعفة.

أساسيات

يقول حسن إغير -وهو أحد سكان القرية- إنهم على الرغم من كل الصعوبات سيستمرون في العيش هنا، وما يأملونه هو أن يحظى دوارهم باهتمام أكبر فيتم توفير الأساسيات لهم.

أساسيات يلخصها محمد الصغير في مدرسة تضمن تدريس الأطفال إلى المستوى الثانوي، ومركز صحي، إلى جانب تعبيد الطريق الجبلي الصعب لتيسير التنقل بين هذا الدوار وبين المراكز الحضرية المحيطة به.

ويشرح الحسين بلحسن (الحوساين باللهجة المحلية) أن ذلك الطريق الطيني الضيق الملتصق بالجبل يُقطع تماما خلال فصل الأمطار والثلوج، فتعيش الـ82 عائلة التي تقطن هنا في عزلة تامة حتى يُفتح الطريق مرة أخرى.

فريق طبي شاب

وصل الدكتور زهير لهنا وفريقه الطبي أخيرا بعد “رحلة تيه” في هذه الطرق الجبلية الضيقة المتشابهة، وسرعان ما بدأ الممرضون الذين يرافقونه في البحث عن مكان يصلح لاستقبال مرضى هذا الدوار ومعالجتهم.

يتكون هذا الفريق الطبي الشاب من أطباء وممرضات وممرضين، بعضهم يتقن اللهجة الأمازيغية المحلية، لتسهيل التواصل مع سكان هذه المناطق التي تعد “تشلحيت” لغة التواصل الأولى لديهم.

يخبرنا الدكتور زهير أن ما يحتاجه سكان دواوير الأطلس المنكوبة الآن هي الخيام ومقرات مؤقتة للسكن تقي الناس من الأمراض القادمة المرتبطة بموسم البرد والصقيع، مما قد يزيد الوضع سوءا.

صقيع يدعو الطبيب المغربي إلى مواجهته أيضا باستخدام الطاقة الشمسية المتوفرة هنا في أعالي الجبال، لتوفير الدفء الذي يحتاجه السكان بشدة خلال فصل الثلوج والصقيع.

“لا تعطني سمكا”

الخبرة الكبيرة للدكتور زهير في التعامل مع الكوارث -خاصة في مثل هذه المناطق النائية- جعلته يبلور مشروعا يتلخص في تدريب طاقات محلية على تقديم الإسعافات الأولية لمن يحتاجها، ومعرفة الأساسيات بخصوص الأدوية التي يتم توزيعها مجانا لتقديمها للناس وقت الحاجة.

وبالنسبة إليه، فهذا هو وقت العمل بالحكمة القائلة “لا تعطني سمكا، بل علمني كيف أصطاد”، لضمان وجود رعاية طبية داخل الدواوير الجبلية، خاصة خلال فترة العزلة التي تفرض في فصل البرد والثلوج.

ويوضح لنا أن هذا المشروع سينقذ أرواحا كثيرة بالتأكيد، لأنه سيوفر الطاقات البشرية التي تقدم الإسعافات الضرورية التي يحتاجها المرضى في الدواوير النائية، في انتظار وصولهم إلى المستشفيات.

ففي مثل هذه الدواوير المعلقة يستحيل قدوم الفرق الطبية في كل مرة، والحل الجذري يكمن في تدريب الطاقات المحلية الشابة التي لديها قدرة على التعلم وتقديم الإسعافات الأساسية للمرضى.

وغير بعيد عن مكان وجودنا مع زهير لهنا أنهى الفريق الطبي تهيئة المكان الذي سيستقبل فيه المرضى في ساحة صغيرة منبسطة تحت الأشجار، فتوجهنا إليه برفقة الطبيب المغربي الذي شرع بمجرد وصوله في التحدث إلى المرضى المجتمعين الذين ينتظرون بلهفة لعرض ما يعانونه من أمراض على الأطباء والممرضين.

خلية نحل

بدا المكان وكأنه خلية نحل، ممرضة هنا تقيس ضغط هذه العجوز، وأخرى هناك تقرأ وصفة دواء قديمة جلبها شيخ لعرضها على الطبيب، وذاك يترجم ما تقوله الممرضة أو الطبيب لذلك الشيخ الذي يتقن الأمازيغية أكثر من الدارجة المغربية.

وبعد دراسة حالة كل مريض يقدم له الطبيب تشخيصا أوليا لحالته، وينصح أصحاب الأمراض المزمنة بعرض أنفسهم على المراكز الطبية المتنقلة التي أقامتها السلطات المغربية داخل المراكز الحضرية القريبة من الدواوير الجبلية، والتي تقدم العلاج للمرضى بالمجان.

تركنا الدكتور زهير وأعضاء فريقه الطبي يؤدون عملهم بهمة ونشاط، وغادرنا المكان فيما تواصل قدوم عدد من سكان القرية لعرض أنفسهم على الفريق الطبي، وهم وإن كانوا لا يعانون من آثار جسدية مباشرة للزلزال لكنهم يستغلون فرصة وجود أطباء في هذا المكان لعرض أنفسهم بحثا عن علاج، ففي مثل هذه الدواوير المعلقة في الهواء تعز الخدمات الطبية، وتصبح رؤية طبيب فيها فرصة يجب ألا تضيع لتشخيص وربما معالجة أمراض لا تريد أن تغادر أجسادهم.

شاركها.
اترك تعليقاً

2024 © السعودية خبر. جميع حقوق النشر محفوظة.