في ظل حكومة مدنية يقودها شهباز شريف، يشهد المشهد السياسي في باكستان تحولاً ملحوظاً، حيث برز قائد الجيش الباكستاني، المشير عاصم منير، كقوة مؤثرة في توجيه القرارات الأساسية للدولة على الصعيدين السياسي والاقتصادي والدبلوماسي. هذا التطور، الذي وصفته مجلة فورين أفيرز الأمريكية بـ “الانقلاب الهادئ”، يعيد تشكيل نموذج السلطة في باكستان، ويضع الجيش في موقع قيادي غير مسبوق منذ عام 2008. هذا التحول يثير تساؤلات حول مستقبل الديمقراطية في البلاد ودور المؤسسة العسكرية في إدارة شؤونها. كلمة مفتاحية رئيسية في هذا السياق هي الجيش الباكستاني ودوره المتصاعد.

صعود قوة الجيش الباكستاني: تحليل التحول السياسي

تستند فورين أفيرز في تحليلها إلى عدة مؤشرات تؤكد هذا الصعود. فإشارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب إلى كل من شهباز شريف وعاصم منير بنفس القدر أثناء إعلانه خطة السلام في غزة، تجسد مكانة الجيش المتزايدة، خاصةً وأن الجيش في باكستان أصبح يتولى زمام الأمور بشكل علني بعد سنوات من النفوذ الخفي. هذا التحول لم يأتِ بالانقلابات التقليدية أو بتعليق الدستور، بل هو استيلاء وظيفي على السلطة السياسية دون استبدالها رسمياً.

الإطاحة بعمران خان ودور الجيش

بدأت ملامح هذا التحول بعد الإطاحة برئيس الوزراء السابق عمران خان عام 2022. يعتقد الكثيرون أن الجيش لعب دورًا محوريًا في هذه الخطوة، وهو ما أكده أحد وزراء حكومة شريف، قائلاً: “نحن نعلم أننا لا يمكننا التخلص من عمران خان من دون الجيش.” وقد تجسد هذا الدور بوضوح في انتخابات 2024، حيث فاز حزب خان بالأغلبية العددية، لكنه لم يتمكن من تشكيل الحكومة بسبب قيود قانونية وسياسية، مما أدى إلى اعتماد الحكومة المدنية الحالية بشكل شبه كامل على دعم الجيش الباكستاني.

المؤسسات العسكرية تتولى زمام المبادرة الاقتصادية

لا يقتصر نفوذ الجيش على الجانب السياسي، بل يمتد ليشمل الاقتصاد بشكل متزايد. فقد أصبح مجلس تيسير الاستثمار، وهو هيئة مشتركة بين المدنيين والعسكريين، الأداة الرئيسية لإدارة الاستثمارات الأجنبية، مع ترجيح كفة الجيش داخله بشكل كبير. وقد أبرمت الهيئة صفقات ضخمة، مثل اتفاقية تصدير المعادن النادرة بقيمة نصف مليار دولار من خلال منظمة الأشغال الحدودية التابعة للجيش. هذا يشير إلى تحول اقتصادي حقيقي نحو إدارة عسكرية. حتى أن تعديلاً دستورياً أُقر مؤخرًا يمنح عاصم منير حصانة قانونية مدى الحياة، وولاية قابلة للتجديد لمدة خمس سنوات، مما يتيح له البقاء في منصبه لمدة عشر سنوات.

علاقة الجيش بالحكومة المدنية: شراكة أم هيمنة؟

يعتبر وزير الدفاع الباكستاني خواجة آصف أن النظام السياسي الحالي هو “هجين” يتقاسم فيه الجيش والحكومة المدنية “ملكية هيكل السلطة.” ويرى مؤيدو هذا النظام أنه يعيد الانضباط والسرعة إلى الدولة، التي عانت من بطء الإجراءات وعدم الاستقرار السياسي. إلا أن هذا يرافقه تهميش دور المؤسسات المدنية، وتحويلها إلى أدوات تنفيذية بينما تتخذ القيادة العسكرية القرارات الحاسمة. هذه الشراكة الهجينة، وراء نجاح باكستان في الحصول على قروض جديدة من صندوق النقد الدولي، وإعادة فتح قنوات دبلوماسية مع الولايات المتحدة ودول الخليج.

المخاطر والتحديات المترتبة على هذا التحول

على الرغم من الدوافع الإيجابية التي يسوقها مؤيدو هذا النموذج، إلا أنه ينطوي على مخاطر جمة. فتركيز السلطة في يد المؤسسة العسكرية قد يضعف الوزارات المختلفة، ويقلل من أهمية الخبرات المدنية، ويقوض آليات الرقابة الديمقراطية، مما يجعل النظام هشًا في مواجهة الأزمات. بالإضافة إلى ذلك، قد يؤدي هذا الدور العسكري المتزايد إلى توتير العلاقات مع الهند، وزيادة الانخراط في الصراعات الإقليمية، خاصةً في منطقة الخليج.

مستقبل الديمقراطية الباكستانية

إن استمرار سجن عمران خان، الشخصية الأكثر شعبية في البلاد، يمثل تحديًا كبيرًا للجيش. فالتسوية القضائية أو السياسية لقضيته قد تهدد النظام الجديد، بينما استمرار استبعاده قد يقوض شرعيته في نظر الشارع. هذا النمط الجديد من الحكم يضع الجيش الباكستاني في دائرة المساءلة الشعبية، حيث لم يعد بإمكانه إلقاء اللوم على الحكومات المدنية في حالة فشل السياسات الاقتصادية أو الأمنية.

خلاصة القول: نظام هجين ومستقبل مجهول

لقد تخلى الجيش الباكستاني عن إستراتيجية الحكم من الظل، وأصبح الآن جزءًا مرئيًا من المشهد السياسي، حيث يقود الدبلوماسية والاقتصاد وصنع القرار. في حين يحتفل مؤيدو هذا النموذج بفاعليته وقوته، يحذر خصومه من أنه يضع البلاد على طريق غير مستقر. سيكون من الضروري مراقبة التطورات المستقبلية لتقييم مدى صمود هذا النظام الهجين أمام التحديات السياسية والاقتصادية والأمنية التي تواجه باكستان. هذه التطورات تتطلب دراسة متأنية لتحليل مستقبل السياسة الباكستانية ومدى تأثير هذا التحول على المنطقة بأسرها.

شاركها.
اترك تعليقاً