واشنطن على مشارف نهاية العصر الذهبي ليهود أميركا
نحن على مشارف نهاية العصر الذهبي ليهود أميركا، هكذا يحذر العديد من المفكرين اليهود الأميركيين من تفشي وانتشار ظواهر مجتمعية وسياسية لا تبشر باستمرار هذا العصر. يأتي هذا التحذير في ظل تحولات عميقة داخل المجتمع والسياسة في الولايات المتحدة، حيث يرفع هؤلاء المفكرون راية التحذير مما ينتظر يهود أميركا في العقود القادمة.
تراجع الدور اليهودي في أميركا
يقدر عدد اليهود في الولايات المتحدة بنحو 7.5 ملايين شخص، أي ما يقرب من 2.1% من سكان البلاد البالغ عددهم 342 مليون نسمة وفق البيانات الحكومية الرسمية. يرى مفكرون تحركهم نزعة قومية يهودية صهيونية قوية أن تراجع الدور اليهودي يعود إلى عدة ظواهر اجتماعية وثقافية، أبرزها ارتفاع معدلات الزواج المختلط بين اليهود وأتباع الديانات الأخرى، وتراجع الاهتمام بالتعليم الديني اليهودي داخل العائلات اليهودية، وتلاشي الارتباط بإسرائيل بين الأجيال الشابة.
تأثيرات سياسية واجتماعية
في الجانب السياسي، يرى هؤلاء المفكرون أن اليهود الأميركيين باتوا يواجهون انتقادات غير مسبوقة، سواء من اليمين الجمهوري كما هو الحال مع الإعلامي الشهير تاكر كارلسون، أو من اليسار الديمقراطي كما في حالة عمدة نيويورك المنتخب زهران ممداني. يضاف إلى ذلك ما يتعرضون له من ضغوط في الجامعات ووسائل الإعلام، خاصة في مرحلة ما بعد الحرب على قطاع غزة. يلخص هؤلاء المفكرون مخاوفهم بالقول إن أميركا تشهد حاليا “حقيقة مزدوجة مزعجة”، إذ يتقاطع تآكل الهوية الدينية بين اليهود أنفسهم مع تزايد العداء المجتمعي والسياسي لهم.
تاريخ اليهود في أميركا
بدأت الهجرات اليهودية الأولى إلى الولايات المتحدة في منتصف القرن الـ17 على شكل مجموعات صغيرة من اليهود الذين فروا من الاضطهاد الديني في إسبانيا والبرتغال. تلتها موجة أكبر منتصف القرن الـ19، خصوصا من ألمانيا بسبب الأوضاع الاقتصادية الصعبة، ثم جاءت الموجة الأضخم بين عامي 1880 و1924، إذ وصل أكثر من مليوني يهودي من أوروبا الشرقية، خاصة من روسيا وبولندا، أعقبها تدفق آخر بعد الحرب العالمية الثانية. أنشأ اليهود شبكة مجتمعية متماسكة من المعابد والجمعيات والمدارس اليهودية، وركزوا على التعليم، مما أسهم في صعود سريع في مجالات الفنون والعلوم والسياسة والمال خلال القرن الـ20.
العصر الذهبي لليهود في أميركا
كانت العقود التي أعقبت الحرب العالمية الثانية بمثابة “حقبة الاندماج الذهبي” لليهود في المجتمع الأميركي، إذ صعدوا إلى الصدارة في ميادين الأعمال والإعلام والسياسة والأوساط الأكاديمية والفنون. في الوقت نفسه، تحولت إسرائيل من عبء دبلوماسي منذ تأسيسها عام 1948 إلى حليف إستراتيجي، خاصة بعد حرب 1967، واعتبر مفكرون يهود أن مرحلة ما بعد ذلك الانتصار مثلت “العصر الذهبي الحقيقي”، حين وصلت معاداة السامية إلى أدنى مستوياتها، وكان دعم الحزبين لإسرائيل في ذروته.
أبرز المحذرين: أليوت أبراهام
من أبرز المحذرين أليوت أبراهام، وهو مفكر يهودي شغل مناصب رفيعة في إدارات جمهورية سابقة، ويعد من رموز حركة المحافظين الجدد. وقد أصدر مؤخرا كتابا بعنوان “إذا شئت ذلك: إعادة بناء هوية الشعب اليهودي في القرن الـ21″، دعا فيه إلى مواجهة ما اعتبره أزمة هوية تهدد يهود أميركا ومستقبل ارتباطهم بإسرائيل. يهدف أبراهام في كتابه إلى تعزيز الهوية اليهودية في ظل بيانات تظهر أن الشباب اليهود الأميركيين ينجرفون بعيدا عن مجتمعهم، وعن إسرائيل على حد سواء.
تناقضات الحياة اليهودية بأميركا
يشير كثير من المفكرين القوميين اليهود إلى أن نجاح مرشح مثل زهران ممداني -الذي يعرف بخطابه المناهض لسياسات إسرائيل- في الفوز بمنصب عمدة مدينة بحجم نيويورك، مع حصوله على دعم أكثر من ثلث الناخبين اليهود، يجسد حالة الانقسام داخل المجتمع اليهودي الأميركي المنقسم سياسيا والمجزأ ثقافيا، والممزق بين الفخر بقوة إسرائيل والقلق من ممارساتها الأخلاقية والسياسية.
تراجع نفوذ اللوبي الصهيوني
غير أن أخطر ما يثير قلق المفكرين اليهود ليس البعد السياسي أو الديمغرافي فحسب، بل تفشي ظاهرة الزواج المختلط. فقد أظهرت دراسة لمعهد “بيو” عام 2020 أن أكثر من 70% من الزيجات اليهودية غير الأرثوذكسية تتم مع شركاء من ديانات أخرى، وأن نحو نصف الأطفال فقط في الأسر اليهودية يربون وفق الثقافة الدينية اليهودية. ومع تراجع الهوية اليهودية، تضعف الروابط العاطفية والأيديولوجية مع إسرائيل، مما يهدد مثلث القوة التقليدي الذي جمع على مدى عقود بين مجتمع يهودي واثق في أميركا، ودعم أميركي متعاطف، ودولة إسرائيلية تستفيد من نفوذ اليهود الأميركيين.
مستقبل اليهود في أميركا
يختم أبراهام بالدعوة إلى توجيه نصف التبرعات اليهودية على الأقل نحو قضايا تخص المجتمع اليهودي أو إسرائيل، مؤكدا أن “العصر الذهبي” ربما يكون قد انتهى بفعل التآكل البطيء للهوية اليهودية وتراجع النفوذ السياسي، لكنه يرى أن استعادته ممكنة. في خضم هذه التحديات، يبقى السؤال قائما: هل يمكن لليهود في أميركا استعادة عصرهم الذهبي، أم أن التغيرات الديمغرافية والسياسية ستستمر في تقويض مكانتهم؟



