في السنوات الأخيرة، شهدنا نموًا هائلاً في مجال الذكاء الاصطناعي، وتحديدًا مع ظهور النماذج اللغوية الكبيرة. هذا الانتشار السريع جذب استثمارات ضخمة، ورفع قيمة شركات التكنولوجيا إلى مستويات غير مسبوقة. لكن، هل هذا النمو مستدام؟ أم أننا نشهد بداية فقاعة وشيكة الانفجار؟ هذا ما يحاول هذا المقال استكشافه، استنادًا إلى تحليل عميق لمجلة ذا أتلانتيك.
طفرة الذكاء الاصطناعي: من الفضاء إلى مراكز البيانات العملاقة
لم يعد الحديث عن الذكاء الاصطناعي مجرد تكنولوجيا مستقبلية، بل أصبح واقعًا ملموسًا يمكن رؤيته من الفضاء. صور الأقمار الصناعية تكشف عن تحول سريع للأراضي الزراعية في مدينة نيو كارلايل بولاية إنديانا الأمريكية إلى مجمعات صناعية ضخمة تضم مراكز بيانات. هذه المراكز، التي تملكها أمازون وتستخدمها شركة أنثروبيك الرائدة في مجال الذكاء الاصطناعي، هي عبارة عن هياكل عملاقة مليئة بخوادم حاسوبية تعمل بلا توقف، وتقوم بعمليات رياضية معقدة على نطاق واسع.
استهلاك الطاقة المهول
يستهلك هذا الحرم الضخم من مراكز البيانات، الذي لم يكتمل بعد، أكثر من 500 ميغاوات من الكهرباء، وهو ما يعادل استهلاك مئات الآلاف من المنازل الأمريكية. وعند اكتمال المشروع، ستتجاوز حاجة هذه المراكز من الطاقة ثلث احتياجات مدينة نيويورك بأكملها. هذا يشير إلى أن الذكاء الاصطناعي يستهلك كميات هائلة من الطاقة، مما يثير تساؤلات حول استدامته.
استثمارات فلكية وتقييمات غير منطقية
الإنفاق العالمي على تقنيات الذكاء الاصطناعي يتزايد بشكل مطرد، ومن المتوقع أن يصل إلى 375 مليار دولار بحلول نهاية العام الحالي، وأن يتجاوز نصف تريليون دولار في عام 2026. أكثر من ثلاثة أرباع مكاسب مؤشر “إس آند بي 500” منذ إطلاق ChatGPT جاءت من أسهم الشركات المرتبطة بالذكاء الاصطناعي.
شركة إنفيديا، المنتجة للرقائق المتطورة التي تعتمد عليها هذه الطفرة، وصلت إلى قيمة سوقية تاريخية تجاوزت 5 تريليونات دولار. للتوضيح، لو زادت قيمة شركة فورد 94 مرة، لما وصلت إلى قيمة إنفيديا الحالية. هذه الأرقام تدل على ووجود تفاؤل مفرط حول مستقبل الذكاء الاصطناعي.
الولايات المتحدة: نحو “دولة الذكاء الاصطناعي”؟
يتزايد الاعتماد على الذكاء الاصطناعي في الولايات المتحدة بشكل ملحوظ، لدرجة أن النفقات المرتبطة به تساهم في نمو الناتج المحلي أكثر من الإنفاق الاستهلاكي. تشير التقديرات إلى أن هذه النفقات مثّلت 92% من نمو الناتج المحلي في النصف الأول من عام 2024. كما ارتفعت حصة قطاع التكنولوجيا في قيمة مؤشر “إس آند بي 500” من 22% إلى حوالي الثلث منذ عام 2022.
هل نحن أمام فقاعة حقيقية؟
بالرغم من النمو الظاهري، يثير العديد من المحللين تساؤلات حول مدى استدامة هذا الازدهار. هناك فجوة كبيرة بين الاستثمارات الضخمة في الذكاء الاصطناعي والعوائد المتواضعة التي يحققها القطاع. على سبيل المثال، حققت شركة “أوبن إيه آي” إيرادات تقدر بـ 4 مليارات دولار العام الماضي، لكنها خسرت 5 مليارات دولار. هذا يجعل تقييمات الاكتتاب العام المقترحة بقيمة تريليون دولار تبدو مبالغًا فيها.
كما أن استثمارات شركات مثل مايكروسوفت وميتا وجوجل في الذكاء الاصطناعي قد أدت إلى خسائر كبيرة في الأرباح. والأرقام تشير إلى أن نحو 80% من الشركات التي تستخدم الذكاء الاصطناعي لم تشهد أي تحسن كبير في أرباحها.
الهندسة المالية المعقدة والديون المتراكمة
لتمويل هذا التوسع الهائل، بدأت شركات التكنولوجيا في اللجوء إلى جمع الأموال الخارجية أو “الاقتراض”، لكنها تتجنب إظهار الديون بشكل مباشر في ميزانياتها لتهدئة المستثمرين. تلجأ هذه الشركات إلى شراكات مع شركات الأسهم الخاصة لتنفيذ عمليات “هندسة مالية” معقدة، حيث تقوم شركات الأسهم الخاصة بتمويل بناء مراكز البيانات، بينما تقوم شركات التكنولوجيا بسداد التكاليف عبر عقود الإيجار.
ثم يتم تحويل هذه العقود إلى أدوات مالية قابلة للبيع، مثل السندات. هذه الممارسات تذكرنا بما حدث قبل الأزمة المالية العالمية عام 2008، عندما أدت عملية تجميع القروض العقارية عالية المخاطر إلى انهيار السوق.
المخاطر الكامنة والسيناريو الكارثي
على الرغم من أن مراكز البيانات ليست بالضرورة قروضًا عالية المخاطر، إلا أنها تحمل قدرًا كبيرًا من الهشاشة. تتدهور هذه المراكز بسرعة، والكثير من الرقائق الحسابية بداخلها ستصبح قديمة في غضون سنوات قليلة مع ظهور تقنيات جديدة.
إذا فشلت شركات الذكاء الاصطناعي في تحقيق وعودها، فقد يؤدي ذلك إلى بيع جنوني للأسهم، مما قد يؤثر سلبًا على صناديق التقاعد والاستثمار وصناديق التأمين. ويمكن أن ينتشر تأثير ذلك إلى قطاعات أخرى من الاقتصاد.
بحث محموم عن “الآلة الخارقة”
الجميع يركض نحو بناء مستقبل الذكاء الاصطناعي، فشركة “أوبن إيه آي” تخطط لبناء 30 جيجاوات من مراكز البيانات، بينما يطمح الرئيس التنفيذي سام ألتمان إلى بناء جيجاوات إضافية كل أسبوع.
هذا السعي وراء التوسع من أجل التوسع، وعدم الاكتراث بالتداعيات، قد يؤدي إلى نتائج وخيمة. وفي النهاية، قد يكون الاضطراب والتألم هو الثمن الذي سيدفعه الجميع.
في الختام، بينما يمثل الذكاء الاصطناعي فرصة هائلة للابتكار والنمو، إلا أن هناك مؤشرات مقلقة تشير إلى أننا قد نشهد فقاعة قريبة الانفجار. يجب على المستثمرين والمراقبين الاقتصاديين أن يكونوا حذرين، وأن يراقبوا عن كثب التطورات في هذا المجال. فالنجاح أو الفشل في تحقيق عوائد على هذه الاستثمارات الضخمة سيحدد مستقبل الاقتصاد العالمي.



