في غضون أقل من عقد، شهدت الصين تحولاً جذرياً في قدراتها العسكرية، حيث نجحت في بناء صناعة دفاعية متكاملة قادرة على منافسة الغرب. هذا التطور، الذي كان يعتمد سابقاً بشكل كبير على استيراد الأسلحة من روسيا وأوروبا، يمثل نقطة تحول استراتيجية، وفقاً لتقرير حديث نشرته صحيفة وول ستريت جورنال. يركز هذا المقال على تحليل هذا التحول، والعوامل التي ساهمت فيه، وتداعياته المحتملة على ميزان القوى العالمي، مع التركيز على الصناعة العسكرية الصينية.
من مستورد إلى منتج: قصة نجاح الصناعة العسكرية الصينية
لطالما كانت الصين أكبر مستورد للأسلحة في العالم. لكن هذا الواقع بدأ يتغير بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة. ففي عام 2016، أطلقت بكين شركة محركات الطيران الصينية (إيه إي سي سي)، وهي خطوة جريئة تهدف إلى معالجة أحد أضعف الروابط في سلسلة التوريد العسكرية الصينية: محركات الطائرات. كان تطوير محرك طائرة متطور يعتبر تحدياً تقنياً كبيراً، لكن الصين أثبتت أنها قادرة على مواجهة هذا التحدي.
اليوم، تشهد مقاتلات الشبح الصينية، مثل J-20 و J-35، دخول الخدمة بمحركات صينية الصنع، وهو ما يصفه المسؤولون الصينيون بـ “القلوب الصينية”. ورغم أن العديد من الطائرات والمروحيات الصينية لا تزال تعتمد على محركات ذات تصميم أجنبي، إلا أن التقدم المحرز مثير للإعجاب. هذا التحول يعكس رؤية الرئيس الصيني شي جين بينغ الطموحة، والتي تهدف إلى تمكين بلاده من “تحدي الولايات المتحدة بشكل شامل على قيادة القوة العسكرية العالمية”.
تراجع الاعتماد على الاستيراد: مؤشرات وتطورات
تُظهر البيانات الصادرة عن معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI) تراجعاً حاداً في حصة الصين من واردات الأسلحة العالمية. فقد خرجت الصين من قائمة أكبر عشرة مستوردين للأسلحة في العالم، بعد أن كانت تتصدر هذه القائمة قبل عقدين. يشير هذا التراجع إلى أن بكين أصبحت قادرة على إنتاج معظم التقنيات العسكرية التي تحتاجها، حتى وإن استمرت في استخدام بعض المكونات الأجنبية لأسباب تتعلق بالتكلفة أو الجودة.
الاستثمار في البحث والتطوير
أحد العوامل الرئيسية التي ساهمت في هذا التطور هو الزيادة الهائلة في الاستثمار في البحث والتطوير العسكري. لم تقتصر الجهود على الجانب التقني فحسب، بل شملت أيضاً إعادة هيكلة الصناعات العسكرية المملوكة للدولة وفتح المجال أمام الشركات الخاصة للمشاركة في تلبية الاحتياجات الدفاعية. هذه السياسات سمحت للصين بالاستفادة من الابتكار والقدرات الإنتاجية للقطاع الخاص، مما أدى إلى تسريع وتيرة التطور.
التجسس والتكنولوجيا: وجه آخر للقصة
لا يمكن تجاهل الدور الذي لعبته أساليب أخرى في تحقيق هذا التقدم. فقد أشارت تقارير غربية إلى أن الصين استفادت من التجسس الصناعي والهجمات السيبرانية والهندسة العكسية لمعدات أمريكية للحصول على التكنولوجيا والمعرفة. تنفي الصين هذه الاتهامات رسمياً، لكنها تظل جزءاً من النقاش حول كيفية تحقيقها هذا التقدم السريع في القطاع الدفاعي.
التفوق في بناء السفن الحربية والأسلحة المتقدمة
لم يقتصر التقدم الصيني على محركات الطائرات. فقد تفوقت الصين على الولايات المتحدة في بناء السفن الحربية، حيث أصبح إنتاجها أسرع وأقل تكلفة. فبين عامي 2015 و 2024، أطلقت البحرية الصينية 152 سفينة، مقابل 70 سفينة للبحرية الأمريكية. كما دشّنت الصين حاملة الطائرات “فوجيان”، وهي أول حاملة طائرات صينية مصممة ومبنية محلياً بالكامل، ومزودة بأنظمة إطلاق كهرومغناطيسية متقدمة.
بالإضافة إلى ذلك، أصبحت الصين رابع أكبر مصدر للأسلحة في العالم، بعد الولايات المتحدة وفرنسا وروسيا. وتُعد صواريخها فرط الصوتية، القادرة على تجاوز معظم أنظمة الدفاع الجوي، مثالاً على تفوق تكنولوجي يتجاوز القدرات الغربية. هذا التطور في التكنولوجيا العسكرية يثير قلقاً متزايداً في واشنطن وحلفائها.
التحديات المستقبلية ورؤية شي جين بينغ
على الرغم من التقدم الهائل الذي أحرزته الصين، لا يزال الطريق طويلاً. فبعض القطع الرئيسية في الترسانة الصينية، مثل القاذفات الاستراتيجية، لا تزال تعتمد على تصاميم سوفياتية أو روسية. كما أن جودة بعض المحركات الصينية لم تصل بعد إلى مستوى المحركات الأمريكية.
ومع ذلك، يتفق المحللون على أن الاتجاه العام واضح: الصين تضيق الفجوة بسرعة. ويرى تاي مينغ تشيونغ، الأستاذ في جامعة كاليفورنيا، أن تفكير شي جين بينغ يقوم على أن الصين لا تزال الطرف الأضعف من حيث الابتكار العسكري-الصناعي مقارنة بالولايات المتحدة. لكنه يؤكد أن هدف شي هو تمكين الصين من “تحدي الولايات المتحدة بشكل شامل على قيادة القوة العسكرية العالمية”. هذا الطموح، إلى جانب الاستثمار المستمر في التطوير العسكري، يشير إلى أن الصين ستواصل تعزيز قدراتها الدفاعية في السنوات القادمة، مما سيؤدي إلى تغييرات كبيرة في ميزان القوى العالمي.
في الختام، يمثل التحول في الصناعة العسكرية الصينية قصة نجاح ملهمة، مدفوعة بالاستثمار الاستراتيجي، والابتكار التكنولوجي، والطموح السياسي. هذا التطور له تداعيات بعيدة المدى على الأمن والاستقرار العالميين، ويتطلب مراقبة وتحليلاً دقيقين. هل ستتمكن الصين من تحقيق هدفها المتمثل في تحدي الهيمنة العسكرية الأمريكية؟ هذا هو السؤال الذي يشغل بال العديد من الخبراء والمحللين في جميع أنحاء العالم.















