مضى أكثر من 25 يوما منذ أن انطلق طوفان الأقصى، وتدفق اللهب من غزة إلى غلافها وضواحيها، وبدأت فيها إسرائيل عملية انتقام واسعة أحرقت خلالها خضراء غزة وحولت شطآنها وحقولها إلى شلالات دافقة من الدم واللهيب، قبل أن تصل إلى محطتها البرية ذات الأهمية الكبيرة بالنسبة للطرفين.

وأمضت إسرائيل أكثر من 3 أسابيع تقصف القطاع المحاصر جوا وبحرا، وتعد العدة لما تصفه بالمناورة البرية، واضطرت لتأجيلها أكثر من مرة بذرائع وأسباب مختلفة وفقا لما تناقلته وسائل إعلامية دولية خلال الأسابيع الماضية.

ورغم أنها بدأت منذ أيام عمليات توغل بري في القطاع عبر أكثر من محور؛ فإن إسرائيل ترفض حتى الآن توصيف ذلك بالعملية البرية الواسعة التي هددت بها مرارا وتكرارا، وربما يعود ذلك إلى خشيتها من أن يمثل ذلك ضغطا على أطراف إقليمية مثل حزب الله ما زالت تحجم عن الانخراط الواسع في الحرب، أو أنها تخشى من تحمل مسؤولية الفشل حين لا تستطيع تحقيق الأهداف المعلنة للحرب البرية.

ومع ذلك تمثل العملية البرية وما يصاحبها من قصف جوي وبحري واسع، ضغطا كبيرا على الطرفين؛ فكتائب القسام وفصائل المقاومة تجد نفسها في مواجهة أقوى وأخطر العمليات العسكرية الإسرائيلية تجاه سكان غزة، وتشعر -بلا شك- بوطأة الأوضاع الإنسانية القاسية في القطاع، وخصوصا مع ارتفاع أعداد الشهداء إلى ما يقارب 9 آلاف، أما القوات الإسرائيلية فتشتبك مع أكثر طبعات المقاومة في فلسطين صمودا، وأقواها عتادا، وتواجه في كل يوم مفاجأة غير سارة ولا مبشرة تجاه توغله.

ولأن الدم المتدفق في غزة بات يبحث عن نهاية، ولأن أصوات الضمائر الحية عبر العالم بُحّت وهي تطالب بوقف شلال الدم المسفوك في غزة؛ فإن مؤشرات التحليل ومسارات التوقع تؤكد وجود 4 عوامل أساسية من شأنها أن تلعب -على تفاوت فيما بينها- دورا كبيرا في تحديد مسار ومصير الحرب على غزة، وهي:

صمود المقاومة

يمثل صمود المقاومة أهم عوامل إفشال العدوان على غزة، حيث تراهن كتائب القسام وفصائل المقاومة بشكل عام على إمكانياتها الدفاعية، ولكنها لا تبالغ في ذلك رغم ما حققته من “توازن في الرعب” خلال الأسابيع المنصرمة، مؤكدة أنها لا يمكن أن تمنع التوغل، لكنها ستجعل ثمنه باهظا للغاية، مما يفتح باب التساؤل عن سقف الثمن الذي يمكن لتل أبيب أن تدفعه من أجل “تحقيق الحد الأدنى من النصر”.

وتقدم كتائب القسام وفصائل المقاومة -منذ بدأت التوغلات البرية- بيانات وتصريحات بشكل شبه يومي بشأن مسار المواجهة وخطوط الاشتباك وحصلة الخسائر في صفوف القوات الإسرائيلية، وتتعهد بالصمود وإفشال مهمة القوات البرية، وتكبيدها أثمانا باهظة.

وفي آخر خطاباته أمس الثلاثاء تحدث أبو عبيدة الناطق باسم كتائب القسام، عن إغارات وعمليات تسلل خلف خطوط قوات العدو، وتدمير 22 آلية عسكرية، وقتل وجرح عدد كبير من الجنود الإسرائيليين خلال مواجهات ضارية ومباشرة.

كما أعلن أبو عبيدة -ضمن جرده لجهود الكتائب في صد الهجوم البري- عن بعض الأسلحة الجديدة التي تستخدم للمرة الأولى خلال حروب المقاومة مع إسرائيل، ومن بينها “طوربيد العاصف” البحري الموجه عن بعد، فضلا عن “عبوات تُستخدم من المسافة صفر ضد الدبابات”.

ورغم التوغلات الإسرائيلية عبر أكثر من محور، خصوصا في الشمال الشرقي، والشمال الغربي، والمنطقة الوسطى بهدف قطع شمال القطاع عن جنوبه، فإن محللين عسكريين يرون أن مسارات التوغل لم تصل بعد إلى الحد المخيف بالنسبة للمقاومة، حيث إن المواقع التي توغلت فيها القوات المهاجمة هي أصلا بمثابة خواصر رخوة للقطاع باعتبارها -في مجملها- مناطق زراعية مفتوحة، أو مناطق تم دكها دكا وسويت فيها المباني بالأرض، مما يعني -وفق هؤلاء- أن الوصول إليها لا يمثل إنجازا عسكريا كبيرا.

وبالإضافة إلى ذلك، تعترف إسرائيل بشراسة المواجهة، وبتكبدها “ثمنا باهظا” خلال المعارك في قطاع غزة، كما قال وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت أول أمس الثلاثاء، رغم تأكيده أن قواتهم حققت “إنجازات كبيرة” خلال العملية، وهو ما يشي بأن القيادات العسكرية والسياسية في تل أبيب مصممة على تحقيق النصر، أو التقاط صورته على الأقل، رغم أن الطريق مؤلم والهدف المنشود يزداد بعدا.

ورغم أن إسرائيل تتحدث عن عملية صعبة وطويلة، ولكن عددا من الخبراء العسكريين يرون أن استمرار صمود المقاومة، وقدرتها على مفاجأة القوات المهاجمة من حين لآخر، وتكبيدها أثمانا كبيرة، وتعزيزها لدفاعاتها العسكرية، من شأنه أن يؤدي إلى تناقص عمر العملية العسكرية البرية؛ حيث يصعب على إسرائيل الاستمرار في حرب مفتوحة، تستنزف اقتصادها وتفرض عليها تغيير إستراتيجياتها السياسة والأمنية، بعد أن نسفت عملية طوفان الأقصى فرقة غلاف غزة، ذات الخبرة العميقة في القطاع، والتجربة الطويلة في مواجهة فصائله ومقاوميه حسب ما تؤكد المقاومة،  لتعيد إسرائيل على ضوء ذلك، رسم غلاف آخر داخل القطاع من الدم والدمار وأشلاء الأطفال والمسنين.

الأسرى والعائلات.. أنين يهز كرسي نتنياهو

ينضاف إلى العامل السابق عامل آخر بالغ الأهمية وهو ورقة الأسرى أو المحتجزين التي تمثل عنصر قوة جديدا وفعالا تضيفه كتائب القسام وفصائل المقاومة بشكل عام إلى قدراتها وأوراقها في الحرب والتفاوض على حد سواء، وإذا كان الأسرى ورقة بيد الغزيين، فإن عائلاتهم هي ورقة ضغط قوية ضد حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.

وتعمل كتائب القسام من حين لآخر على إثارة وتقوية هذا الضغط ببث تسجيلات لبعض الأسرى لديها، ضمن مسارات الحرب النفسية التي أصبحت هي الأخرى جزءا من أوراق القوة الجديدة لدى المقاومة.

وتحمل أسر الأسرى نتنياهو المسؤولية عن حياة أبنائهم، كما يضغطون أيضا للاستجابة لطلب حماس الإفراج عن جميع الأسرى مقابل الإفراج عن جميع السجناء الفلسطينيين والعرب لدى إسرائيل.

ومع استمرار العملية البرية، ينتظر أن تتصاعد تحركات ونشاطات عوائل الأسرى في الداخل الإسرائيلي، وهو ما يمثل عاملا إضافيا من شأنه -مع عوامل أخرى- أن يمثل ضغطا كبيرا على نتنياهو وأركان حربه لعدم إطالة أمد الحرب، خصوصا إذا فشلت القوات البرية في تحقيق اختراق نوعي، يعطي صورة نصر على أديم قطاع غزة.

المسلمون الأميركيون.. ضغط متصاعد على بايدن

لا ريب في أن دور واشنطن في الحرب الحالية على غزة كان كبيرا، وتجاوز دعمها اللافت لإسرائيل عسكريا وأمنيا وسياسيا، كل التوقع، وعاد لينعكس على بايدن لغطا في الداخل وأثرا سلبيا متوقعا على حظوظه الانتخابية في العام القادم.

ويمثل المسلمون في الولايات المتحدة عنصرا مهما ضمن مكونات النسيج الاجتماعي والسياسي في البلاد، وقد هددوا وأكدوا أنهم سيحشدون مواقفهم السياسية ضد بايدن في انتخابات 2024، ما لم ينقذ نفسه بإيقاف الحرب المجنونة في غزة.

وهدد هؤلاء وبعض نشطاء الحزب الديمقراطي (حزب بايدن) أنهم سيعملون على حشد ملايين الناخبين المسلمين، وتشجيعهم على وقف التبرعات والامتناع عن التصويت لصالح الرئيس جو بايدن في انتخابات الرئاسة عام 2024 ما لم ينقذ نفسه باتخاذ خطوات فورية لوقف إطلاق النار في غزة.

ويمثل المجلس الوطني الديمقراطي الإسلامي أحد أبرز الأصوات الإسلامية الأميركية المناوئة لاستمرار الحرب في غزة، ودعا هذا المجلس بايدن إلى اتخاذ ما يمكنه من وساطة وتأثير من أجل إيقاف الحرب بحلول الساعة التاسعة ليلا من مساء أمس الثلاثاء، وهي الدعوة التي لا يظهر أنها تلقت حتى الآن آذانا صاغية من الرئيس الأميركي، ليبقي هؤلاء على تهديدهم القوي بالحشد ضد أي مرشح يدعم العدوان الإسرائيلي في غزة.

ونقلت وكالة رويترز عن جيلاني حسين المدير التنفيذي لمجلس “كير” في مينيسوتا، قوله إن الزعماء الأميركيين المسلمين في ولايات تعتبر حاسمة لبايدن في انتخابات عام 2024 سيقدمون مطالب مماثلة بإيقاف الحرب على غزة.

ومع استمرار المجازر في غزة، يتوقع أن تتصاعد ضغوط الأميركيين المسلمين، والتقدميين في الحزب الديمقراطي على البيت الأبيض، وعندما يشعر بايدن، أن بوادر الانشطار الحالي في الحرب الديمقراطي ومواقف المسلمين المنددة بتماهي إدارته مع الموقف الإسرائيلي يمكن أن تؤثر على حظوظه في ولاية ثانية، فلا يستبعد حينئذ أن يأخذ انعطافة أخرى نحو كفكفة غلواء هذه الحرب المسعورة.

هل يضغط حزب الله على الزناد المقاوِمة؟

دخل حزب الله بشكل جزئي في المواجهة مع إسرائيل منذ الأيام الأولى لاندلاع الحرب، ومع أن الصواريخ التي يطلقها الحزب تجاه المواقع والبلدات الإسرائيلية تساهم -ولو جزئيا- كما يقول مراقبون في تشتيت الجهود الحربية الإسرائيلية؛ فإن الحزب الذي يحمل شعار المقاومة ضد إسرائيل لم يتوغل عميقا بعد، ولم ينخرط بشكل كامل وقوي في الحرب الحالية بين إسرائيل وفصائل المقاومة في غزة.

وقد أشار بعض قادة حركة المقاومة الإسلامية (حماس) إلى أن الحركة تنتظر من الحزب أكثر مما قدم حتى الآن.

ولا يعرف حتى الآن ما سيكشف عنه حسن نصر الله في خطابه المنتظر، الذي -في سياق خاص- يتمثل في انقضاء نحو شهر على اندلاع الحرب على غزة، وأيام على بدء الحرب البرية في القطاع، وكون الرجل يتحدث للمرة الأولى منذ بداية الحرب.

وسيكون موقف حزب الله مؤثرا بقوة في مستقبل العملية العسكرية البرية في غزة، إذا ما صعد من هجماته، أو قرر الدخول بشكل كامل في الحرب، وهو ما يعني فتح جبهة لن تكون سهلة أمام إسرائيل.

وينضاف إلى حزب الله، الدور الذي يمكن أن تلعبه كتائب وحركات عسكرية محسوبة على ما يسمى بمحور المقاومة مثل جماعة الحوثيين التي أعلنت أمس عن استهداف إسرائيل بصواريخ بالستية ومجنحة في عملية هي الثالثة من نوعها.

ومن بين هذه العوامل يمكن أن تتضح الصورة أكثر، ليبقى للدم وحده الرأي الأكثر فصاحة وحسما في مدة وعمر الحرب المسعورة على القطاع المدمر.

شاركها.
اترك تعليقاً

2024 © السعودية خبر. جميع حقوق النشر محفوظة.