في أقصى درجات التعقيم، حيث لا يُفترض أن توجد أي حياة ميكروبية، اكتشف علماء من جامعة هيوستن نوعًا فريدًا من البكتيريا قادرًا على البقاء على قيد الحياة في ظروف قاسية للغاية. هذه البكتيريا، المعروفة باسم تيرسيكوكوس فونيسيس، أثارت تساؤلات حول فعالية إجراءات التعقيم الحالية المستخدمة في استكشاف الفضاء، وإمكانية تلويث الكواكب الأخرى. تُظهر هذه الدراسة أهمية فهم آليات بقاء الكائنات الدقيقة في البيئات القاسية، وتأثير ذلك على حماية الكواكب.
اكتشف فريق البحث أن هذه البكتيريا لا تموت تحت ظروف التعقيم الشديدة، بل تدخل في حالة من “السبات العميق” أو “التظاهر بالموت”، مما يجعلها غير قابلة للكشف بالطرق التقليدية. وقد تم العثور على هذه البكتيريا في غرف تجميع المركبات الفضائية التابعة لوكالة ناسا ووكالة الفضاء الأوروبية، على الرغم من الإجراءات الصارمة المتبعة لضمان نظافتها.
تيرسيكوكوس فونيسيس: البقاء في بيئات التعقيم
غرف التجميع الفضائية مصممة لتكون معقمة بشكل استثنائي، وذلك لمنع تلوث الكواكب الأخرى بالكائنات الحية الدقيقة من الأرض. تُستخدم تقنيات مثل المرشحات عالية الكفاءة، والأشعة فوق البنفسجية، والمواد الكيميائية القاتلة للجراثيم لضمان خلو هذه الغرف من أي حياة ميكروبية. ومع ذلك، أظهرت الدراسات السابقة أن بعض البكتيريا يمكنها البقاء على قيد الحياة في هذه البيئات، إما عن طريق استهلاك المواد المستخدمة في التنظيف أو عن طريق الاختباء في أماكن يصعب الوصول إليها.
لكن تيرسيكوكوس فونيسيس تختلف عن غيرها؛ فهي لا تعتمد على أي من هذه الاستراتيجيات. بدلاً من ذلك، تدخل في حالة من الخمول التام، حيث تتوقف جميع وظائفها الحيوية تقريبًا. هذا يجعلها غير قابلة للكشف بالطرق التقليدية، مثل زراعة البكتيريا أو فحصها تحت المجهر.
آلية السبات العميق
أظهرت التحاليل الجينية أن تيرسيكوكوس فونيسيس تمتلك جينًا ينتج بروتينًا يُعرف باسم “عامل تنشيط الإحياء”. يعتقد العلماء أن هذا البروتين يلعب دورًا في تنظيم عملية السبات العميق، مما يسمح للبكتيريا بالبقاء على قيد الحياة في ظروف قاسية.
لتأكيد هذه الفرضية، قام فريق البحث بتجربة أظهرت أنه عندما تُحرم البكتيريا من الغذاء والماء، فإنها تدخل في حالة سبات لا تستجيب فيها للمحفزات الخارجية. ولكن، عند إضافة بروتين “عامل تنشيط الإحياء” من بكتيريا قريبة، استيقظت الخلايا وبدأت في النمو مرة أخرى، مما يؤكد أنها كانت في حالة سبات وليست ميتة.
تداعيات على استكشاف الفضاء
هذا الاكتشاف له تداعيات كبيرة على استكشاف الفضاء، وخاصةً فيما يتعلق بمبدأ “الحماية الكوكبية”. يهدف هذا المبدأ إلى منع انتقال الحياة الميكروبية من الأرض إلى الكواكب الأخرى، أو العكس. ويوضح الباحثون أن وجود بكتيريا مثل تيرسيكوكوس فونيسيس يشكل تحديًا كبيرًا لهذا المبدأ.
إذا تمكنت هذه البكتيريا من البقاء على قيد الحياة في رحلة إلى المريخ، على سبيل المثال، فقد تستيقظ وتبدأ في النمو في البيئة المريخية، مما قد يؤدي إلى تلويث الكوكب وإرباك البحث عن الحياة خارج الأرض. بالإضافة إلى ذلك، قد تشكل هذه البكتيريا خطرًا على رواد الفضاء في البعثات المأهولة، حيث يمكن أن تؤثر على صحتهم أو على الأنظمة الحيوية في المركبات الفضائية.
مستقبل التعقيم وحماية الكواكب
يؤكد العلماء على ضرورة تطوير طرق جديدة وأكثر فعالية للكشف عن الكائنات الدقيقة النائمة في البيئات المعقمة. تشمل هذه الطرق استخدام تقنيات متقدمة لتحليل الحمض النووي، وتطوير مواد كيميائية قادرة على إيقاظ البكتيريا من سباتها ثم القضاء عليها.
بالإضافة إلى ذلك، يجب تحسين إجراءات التعقيم المستخدمة في غرف تجميع المركبات الفضائية، لضمان عدم وجود أي فرصة للبكتيريا للاختباء أو الدخول في حالة سبات.
في المستقبل القريب، من المتوقع أن تركز وكالات الفضاء على إجراء المزيد من الدراسات لتحديد مدى انتشار البكتيريا النائمة في البيئات المعقمة، وتقييم المخاطر المحتملة التي تشكلها. كما سيتم العمل على تطوير تقنيات جديدة لحماية الكواكب من التلوث الميكروبي، وضمان استمرار البحث عن الحياة خارج الأرض بطريقة آمنة ومسؤولة. يبقى التحدي قائمًا، ويتطلب تعاونًا دوليًا وجهودًا بحثية مكثفة.















