تمكن فريق بحثي من جامعة كوينزلاند الأسترالية من تحقيق اختراق علمي في مجال دراسة ديناميكيات الأمواج، وذلك من خلال تطوير منصة ميكروية مبتكرة قادرة على محاكاة حركة الأمواج المعقدة بدقة غير مسبوقة. هذه المنصة، التي يبلغ عرضها سمك الشعرة البشرية، تستخدم الهيليوم فائق السيولة لتمثيل الأمواج وتوفير رؤى جديدة حول سلوكها، مما يفتح آفاقاً واسعة لتحسين التنبؤ بالطقس وتصميم تقنيات هندسية متطورة.

يعتبر هذا الإنجاز، الذي نشرت نتائجه في مجلة “ساينس” العلمية المرموقة، خطوة مهمة نحو فهم الظواهر الموجية المعقدة التي غالباً ما تعجز عنها الحواسيب العملاقة والتجارب المعملية التقليدية. يهدف الباحثون إلى استخدام هذه التقنية الجديدة لدراسة تأثير الأمواج على مختلف المجالات، مثل الطاقة المتجددة والهندسة البحرية.

فهم أفضل لديناميكيات الأمواج

يُعد فهم سلوك الأمواج، وخاصةً في حالة الاضطراب الشديد، من التحديات الكبرى التي تواجه علماء الفيزياء. وقد وصف العالم الراحل ريتشارد فاينمان هذه المسألة بأنها “آخر تحد عظيم غير محلول” في الفيزياء الكلاسيكية. تكمن الصعوبة في محاكاة هذه الظواهر بدقة بسبب تعقيد المعادلات الفيزيائية والحاجة إلى قدرات حسابية هائلة.

يعمل النظام الجديد على تجاوز هذه العقبات من خلال استخدام الهيليوم فائق السيولة، وهي مادة تتميز بانعدام اللزوجة أو الاحتكاك. يسمح هذا بتصغير حجم القنوات التي تتحرك فيها الأمواج إلى نطاق النانومتر، مما يسرع عملية المحاكاة بشكل كبير. يقول وورويك بوين، الباحث في مركز “إيه آر سي” للتميز في أنظمة الكم الهندسية بجامعة كوينزلاند، إن “الفكرة هي إنشاء محاكٍ لفيزياء موجات الماء المهمة، بهدف فهم أعمق لكيفية نشأة الظواهر الموجية المعقدة.”

تحديات المحاكاة التقليدية

تعتمد التجارب التقليدية لدراسة الأمواج على مجارٍ طويلة أو قنوات واسعة، مما يجعلها مكلفة وتستغرق وقتاً طويلاً. بالإضافة إلى ذلك، فإن هذه القنوات لا يمكنها في كثير من الأحيان محاكاة الأشكال الهندسية المعقدة أو الحالات الطبيعية المتطرفة بدقة.

أما النظام الجديد، فيتيح تصنيع آلاف القنوات الدقيقة على شريحة سيليكون واحدة، مما يتيح للباحثين دراسة مجموعة واسعة من الظواهر الموجية في وقت واحد. يضيف بوين: “يمكننا التحكم في هندسة الشريحة وبالتالي التحكم في انتشار الموجات، مما يسمح لنا بإنتاج موجات بخصائص مختلفة.”

ظاهرة “التحدب الخلفي للموجة”

أحد الاكتشافات البارزة التي أتاحها هذا النظام هو رصد ظاهرة “التحدب الخلفي للموجة”. على عكس الأمواج في البحار، حيث تتحرك قمم الأمواج بسرعة أكبر من قيعانها، في هذا النظام تتحرك قيعان الأمواج أسرع من القمم. هذه الظاهرة، التي كانت تعتبر نظرية في السابق، قد تم تأكيدها تجريبياً بفضل هذه التقنية المبتكرة.

إن فهم هذه الظاهرة وغيرها من التفاصيل الدقيقة المتعلقة بـديناميكيات الأمواج يمكن أن يساعد في تحسين نماذج التنبؤ بالطقس وتطوير تقنيات هندسية أكثر كفاءة. مثلا، يمكن استخدام هذه المعرفة في تصميم توربينات رياح قادرة على التقاط المزيد من الطاقة من الأمواج البحرية، أو في بناء سفن أكثر استقراراً وأماناً.

تطبيقات مستقبلية لدراسة الأمواج

لا يقتصر استخدام هذه المنصة الميكروية على دراسة الأمواج المائية فحسب، بل يمكن تطبيقها أيضاً على دراسة أنواع أخرى من الأمواج، مثل الأمواج الصوتية والأمواج الكهرومغناطيسية. هذا يفتح الباب أمام تطوير تقنيات جديدة في مجالات متنوعة، مثل الاتصالات والاستشعار الطبي.

يعتمد النظام الجديد على استبدال تأثير الجاذبية بقوى فان دير فالس، وهي قوى تجاذب أساسية تظهر بين الجزيئات. تصبح هذه القوى قوية بشكل خاص على نطاق النانومتر، مما يسمح بإنتاج أمواج ذات خصائص مشابهة للأمواج في المحيطات العميقة، ولكن في مساحة صغيرة جداً. يؤكد بوين أن “التحكم في هندسة الشريحة يسمح بالتحكم في انتشار الموجات، وهذا يسمح لنا بصناعة موجات بخصائص مختلفة.”

من المتوقع أن يستمر الباحثون في تطوير هذه التقنية واستكشاف تطبيقاتها المحتملة في السنوات القادمة. تشمل الخطوات التالية تحسين دقة المحاكاة وزيادة عدد القنوات على الشريحة الواحدة، بالإضافة إلى تطوير خوارزميات جديدة لتحليل البيانات التي يتم جمعها. يبقى التحدي الأكبر هو ترجمة هذه الاكتشافات إلى تطبيقات عملية ملموسة، وهو ما يتطلب تعاوناً وثيقاً بين الباحثين والمهندسين.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version