تبدأ الحكاية من جلسة غداء صيفية عادية في مختبر لوس ألاموس الوطني، بولاية نيوميكسيكو الأميركية سنة 1950، دار خلالها نقاش بين مجموعة من 9 فيزيائيين حول خرافات الأطباق الطائرة، وهنا ألقى إنريكو فيرمي، الفيزيائي الحاصل على جائزة نوبل، بسؤال بسيط: “أين ذهب الجميع؟”

انفجر الجالسون ضحكا على إثر السؤال، لكن مع قاعدة نظرية مثيرة للانتباه عرضها فيرمي، أصبح الأمر أكبر من مجرد خاطرة أو فرصة للتأمل، بل تساؤلا مهما سمي بعد ذلك “مفارقة فيرمي”

مفارقة بلا إجابة

وتجري المفارقة كالتالي، نعيش في كون ولد قبل نحو 13.8 مليار سنة بحسب أكثر النظريات قبولا لدى العلماء، به تريليونا مجرة أو أكثر، كل واحدة منها تحتوي على مئات المليارات من النجوم، نعتقد كذلك -بعد حوالي 4 عقود من البحث في نطاق الكواكب التي تدور حول نجوم غير الشمس- أن هناك عددا مماثلا الكواكب، بعضها يمكن له احتضان ظروف تشبه ظروف أرضنا الدافئة.

في كون كهذا، يمكن لحضارة ما تمتلك تكنولوجيا صاروخية متوسطة أن تصل إلى كامل حدود المجرة الخاصة بها خلال 10 ملايين سنة فقط، في تلك النقطة دعنا نفترض أن هناك كوكبا ما، لنسمّه “الكوكب كريبتون”، يشبه الأرض في كل شيء تقريبا، ولد “كريبتون” قبل نحو 6.5 مليارات سنة ضوئية، بينما ولدت الأرض من باطن السحابة الغبارية المحيطة بالشمس قبل 4.5 مليارات سنة ضوئية فقط، هذا يعني أن كريبتون الآن يتقدم عنّا بملياري سنة.

هنا سوف نسأل: متى ابتكر الإنسان الكتابة؟ قبل حوالي 5 آلاف و7 آلاف سنة مثلا، إن كل ما نراه من تقدم صناعي كان ابن 200 سنة سابقة، ومنذ 20 سنة فقط لم نكن نتوقع أن 6 مليارات شخص من هذا الكوكب سوف يمتلكون هواتف محمولة، التقدم التقني يتخذ نمط تطور متسارع، بحيث تمثل 100 سنة طفرة كبيرة، لكن في عمر الكون فهذه ليست إلا لحظة.

إن تطور القدرات التقنية للبشرية بتلك السرعة يدفعنا، على الأقل، إلى فهم مدى التقدم المتوقع إذا استمرت الأمور بهذا النمط. وفي دراسة شهيرة صدرت بدورية “نيتشر” في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي، لمؤلفين من جامعة كورنل هما جيسيب كوكوني وفيليب موريسون، فإن محاكاة بسيطة لتطور وضعنا كحضارة بشرية، يجعله من المحتمل أيضا لأية حضارة عاقلة أن تتمكن من بث أو استقبال إشارات راديوية بدرجة كبيرة من السهولة، وذلك لأن كل ما تحتاجه الحضارة هو بدايات علم الفلك الراديوي فقط بحيث يمكن استقبال وإرسال إشارات راديوية من الفضاء عن طريق أطباق لاقطة.

في تلك النقطة يقترح الفيزيائي البريطاني فريمان دايسون في ورقة بحثية نشرت بدورية “ساينس” في ستينيات القرن الماضي أن حضارة أخرى متقدمة عنا فقط بفارق قدره عدة آلاف من الأعوام، ستمتلك القدرة على تسخير الطاقة الصادرة من نجم كامل، بحيث يمكن تصميم كرة ضخمة للغاية، أو على الأقل سرب هائل من الأقمار الاصطناعية -في مرحلة ما- لصناعة غلاف حول نجم مجاور واستهلاك كل طاقته.

فرضية حديقة الحيوان

إذا كان التقدم سهلا إلى هذا الحد، فأين ذهبت الكائنات الفضائية إذن؟ خلال نصف قرن مضى قدم العلماء والمفكرون اقتراحات عدة للإجابة عن هذا السؤال، واحدة منها كانت “فرضية حديقة الحيوان”، التي تنص على أن الحياة خارج كوكب الأرض تتجنب عمدا الاتصال بالأرض للسماح بالتطور الطبيعي والتطور الاجتماعي والثقافي، وتجنب التلوث بين الكواكب، على غرار الأشخاص الذين يراقبون الحيوانات في حديقة الحيوان.

هذا النمط من السلوك مرصود في البشر، فمثلا تتجنب العديد من الدول التدخل في شؤون مجموعات “الشعوب الأصلية”، حتى لا يؤثر ذلك التدخل على تطورهم الاجتماعي الطبيعي ويتسبب في بلبلة شديدة داخل مجتمعاتهم، هذه الصدمة الحضارية تؤثر سلبا في الثقافات والشعوب، تخيل فقط أننا تمكنا بطريقة ما من السفر في الزمن وإرسال هاتف ذكي إلى مجموعة من جامعي الثمار قبل 10 آلاف سنة.

وقد تختار أشكال الحياة خارج كوكب الأرض، على سبيل المثال، السماح بالاتصال بمجرد أن يجتاز الجنس البشري معايير تكنولوجية وسياسية أو أخلاقية معينة. بدلا من ذلك، قد تمتنع عن الاتصال حتى يفرض البشر الاتصال عليها، ربما عن طريق إرسال مركبة فضائية إلى كوكب تسكنه كائنات فضائية.

في هذا الصدد، قد يعكس الإحجام عن بدء الاتصال رغبة معقولة في تقليل المخاطر. قد يستنتج المجتمع الفضائي الذي يمتلك تقنيات استشعار عن بعد متقدمة أن الاتصال المباشر بالجيران يفرض عليه أخطارا إضافية دون فائدة إضافية، ما الذي تستفيده كائنات متقدمة من كوكب أقل تقدما مثلا؟ لاحظ أن السفر بين النجوم مكلف جدا، حتى على أكثر الحضارات تقدما، بسبب المسافات الشاسعة التي يجب أن تقطعها، خذ أقرب نجم للشمس مثلا، يقع تقريبا على مسافة 40 ترليون كيلومتر من الأرض.

تخمينات فكرية

وتبنى فرضية حديقة الحيوان على عدة أسس، أولاً، أنه كلما كانت الظروف تسمح للحياة بالوجود والتطور، فسوف يحدث ذلك، وثانيا، هناك العديد من الأماكن حيث يمكن للحياة أن توجد وعدد كبير من الثقافات خارج كوكب الأرض، وثالثا، أن هذه الكائنات الفضائية تكن احتراماً كبيراً للتطور والنمو الطبيعي المستقل.

لكن إلى الآن، لا يوجد تأكيد علمي (أو حتى فكري) على صحة هذه القواعد الثلاث، حيث يفترض العلماء أن نشأة وازدهار الحياة على الكواكب البعيدة أمر شديد الندرة، بسبب ضرورة توافق عدد كبير من العوامل لتستمر الحياة على كوكب ما وصولا إلى مستوى الحياة العاقلة، الأمر الذي يتطلب مليارات السنوات.

أضف لذلك أن الفرضية ستكون صحيحة إذا كانت هناك سياسة ثقافية أو قانونية كونية متفق عليها بين مجموعة من الحضارات الفضائية التي تستلزم العزلة فيما يتعلق بالحضارات في مراحل تطور شبيهة بالأرض، أما في عالم بلا قوة مهيمنة، فإن الحضارات الفردية العشوائية ذات المبادئ المستقلة سوف تتواصل.

وفي كل الأحوال، تظل مثل هذه الفرضيات في خانة التخمينات الفكرية، بينما تبقى الحقيقة الواحدة التي نعيشها الآن، مع العديد من الأرصاد الفلكية، هي أنه لم يحدث حتى اللحظة أي تواصل مع كائنات فضائية عاقلة على كواكب أخرى، بل لم يتمكن البشر من رصد أي صورة من صور الحياة خارج كوكب الأرض.

شاركها.
اترك تعليقاً

2024 © السعودية خبر. جميع حقوق النشر محفوظة.