كشفت أبحاث علمية حديثة، باستخدام تقنيات متطورة مثل الليدار، عن أدلة قوية على وجود حضارات بشرية متقدمة في منطقة الأمازون بشمال بوليفيا، تحدد مفهومنا عن تاريخ المنطقة. هذه الحضارات لم تترك وراءها مدنًا حجرية ضخمة، بل أبدعت في هندسة ترابية ذكية تعاملت مع المياه كحليف، وليس عدوًا، مما يشير إلى فهم عميق للبيئة المحيطة. وتُظهر هذه الاكتشافات أن الأمازون ليست مجرد غابة “طبيعية” لم تمسها يد الإنسان، بل هي مشهد ثقافي تشكّلت ملامحه عبر قرون من التفاعل البشري.

تركزت الاكتشافات حول بحيرتي روجاغوادو وجينيبرا، حيث كشف الليدار عن شبكات معقدة من المنصات الزراعية والقنوات والردميات، والتي لم تكن واضحة من قبل بسبب الغطاء النباتي الكثيف. هذه الاكتشافات تعيد كتابة تاريخ المنطقة، وتُظهر أن المجتمعات البشرية القديمة كانت قادرة على التكيف والازدهار في بيئة صعبة، من خلال استخدام تقنيات مبتكرة لإدارة الموارد المائية والزراعية.

ما هو الليدار وأهميته في كشف أسرار الأمازون؟

الليدار (LiDAR) هو اختصار لـ “Light Detection and Ranging”، وهو جهاز يستخدم نبضات الليزر لقياس المسافات بدقة عالية. غالبًا ما يتم تركيب هذا الجهاز على طائرات أو طائرات بدون طيار (درون)، ويقوم بمسح سطح الأرض لإنشاء خريطة ثلاثية الأبعاد مفصلة للتضاريس. تكمن أهمية الليدار في الأمازون في قدرته على اختراق الغطاء النباتي الكثيف، والكشف عن التفاصيل الدقيقة التي لا يمكن رؤيتها بالعين المجردة، مثل القنوات والخنادق والمنصات الزراعية القديمة.

في مسح منطقة بحيرة روجاغوادو، غطى الليدار حوالي 8.6 كيلومترات مربعة، وكشف عن مجموعة متنوعة من الهياكل الترابية، مما يشير إلى أن هذا الموقع كان مركزًا مهمًا للحضارة القديمة. لكن الليدار وحده لا يكفي لإثبات أن هذه الهياكل من صنع الإنسان، فهو يوفر خريطة دقيقة، لكنه يحتاج إلى دعم من خلال الحفريات والتحاليل البيئية.

دور الحفريات والتحاليل العلمية

بعد رسم خريطة التضاريس باستخدام الليدار، يقوم الباحثون بإجراء حفريات في المواقع الواعدة، لجمع عينات من التربة وبقايا الفحم والعظام والبذور. تساعد هذه العينات في تأكيد طبيعة الهياكل المكتشفة وتحديد تاريخها باستخدام تقنيات مثل التأريخ بالكربون المشع. تحليل بقايا الفخار والأدوات الحجرية يوفر أيضًا معلومات قيمة عن ثقافة وتكنولوجيا هذه المجتمعات القديمة.

بالإضافة إلى ذلك، يركز الباحثون على تحليل بيئة المنطقة، من خلال دراسة النباتات والحيوانات القديمة، لتحديد كيف كانت هذه المجتمعات تتفاعل مع البيئة المحيطة بها. هذا التحليل يساعد في فهم الاستراتيجيات التي استخدمتها هذه المجتمعات للتكيف مع التحديات البيئية، مثل الفيضانات والجفاف.

كيف عاشت المجتمعات القديمة في منطقة الأمازون؟

تشير الأدلة إلى أن المجتمعات القديمة في منطقة الأمازون لم تحاول السيطرة على البيئة، بل سعت إلى التعايش معها. بدلًا من محاولة تجفيف الأراضي، قاموا ببناء هياكل ترابية لرفع أجزاء منها، وحفر قنوات لتوجيه المياه، وإنشاء حقول مرتفعة لحماية المحاصيل من الفيضانات. هذا النهج يعكس فهمًا عميقًا لديناميكيات المياه في المنطقة، وقدرة على التكيف مع الظروف المتغيرة.

وكشفت الدراسات عن اقتصاد متنوع، يعتمد على الزراعة وإدارة الغابات. المواقع الأثرية في جينيبرا، على سبيل المثال، تحتوي على أدلة على وجود أنواع مختلفة من النخيل، بالإضافة إلى الذرة ومحاصيل أخرى. هذا التنوع في الموارد الغذائية يشير إلى أن هذه المجتمعات كانت قادرة على ضمان استدامتها على المدى الطويل، من خلال الاعتماد على مجموعة واسعة من المصادر الغذائية. أظهرت الدراسة في الواقع، أن المجتمعات لم تعتمد على محصول واحد فقط.

التعاون مع المجتمعات المحلية كان أيضًا جزءًا أساسيًا من هذا البحث. فبدلًا من إجراء تنقيبات فوق أرض الآخرين، عمل الباحثون جنبًا إلى جنب مع السكان الأصليين، واستفادوا من معرفتهم التقليدية بالمنطقة، واحترموا أماكنهم ذات القيمة الثقافية. هذا النهج يضمن أن البحث يتم بطريقة أخلاقية ومسؤولة، وأن المجتمعات المحلية تستفيد من الاكتشافات الجديدة.

تُظهر هذه الاكتشافات أن تاريخ منطقة الأمازون أكثر تعقيدًا وغنى مما كنا نعتقد من قبل. هذه الحضارات القديمة لم تكن مجرد مجتمعات بسيطة متناثرة، بل كانت قادرة على بناء شبكات معقدة من البنية التحتية، وإدارة الموارد الطبيعية بشكل مستدام، والازدهار في بيئة صعبة. الأبحاث المستقبلية، التي ستعتمد على تقنيات متطورة وتعاون وثيق مع المجتمعات المحلية، ستساعدنا على فهم هذه الحضارات بشكل أفضل، وكشف المزيد من أسرار الأمازون. من المتوقع أن تصدر تقارير مفصلة عن نتائج هذه الأبحاث خلال الـ 12 شهرًا القادمة، وستتضمن خرائط تفصيلية للمواقع الأثرية، وتحليلات متعمقة للبقايا المكتشفة. ومع ذلك، لا تزال هناك العديد من الأسئلة التي تحتاج إلى إجابة، مثل الأسباب التي أدت إلى هجر هذه المواقع، وكيف تطورت هذه الحضارات على مر الزمن.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version