في دراسة حديثة، كشفت أبحاث علمية تفاصيل مذهلة حول أنماط توزيع الغذاء، وتحديدا اللحوم، في مجتمعات قرود البابون الغينية في متنزه “نيوكولو-كوبا” الوطني في السنغال. هذه الأنماط ليست عشوائية بل تعكس البنية الاجتماعية المعقدة للبابون، وتشير إلى أوجه تشابه مثيرة للاهتمام مع سلوكيات تقاسم الطعام لدى البشر القدماء. وقد سلطت الدراسة الضوء على أهمية الشبكات الاجتماعية في تحديد كيفية الوصول إلى الموارد الغذائية وتقاسمها، مما يقدم رؤى جديدة حول تطور السلوك الاجتماعي لدى كل من القرود والبشر.
ركزت الدراسة، التي نشرت في دورية “آي ساينس”، على مراقبة سلوكيات البابون أثناء وبعد صيد الحيوانات الصغيرة. وأظهرت النتائج أن انتقال اللحوم داخل المجتمع يتبع نمطًا متدرجًا، حيث يتم تفضيل الأفراد ذوي الروابط الاجتماعية القوية.
مجتمع البابون وتوزيع اللحوم
يتكون مجتمع البابون الغيني من ثلاثة مستويات متميزة: الوحدة، والحزب، والعصبة. الوحدة هي أصغر وحدة اجتماعية، وتتكون من ذكر بالغ وعدد من الإناث وصغارهن. أما الحزب، فهو مجموعة من عدة وحدات ترتبط ببعضها البعض. وتعتبر العصبة أكبر تكتل اجتماعي، حيث تتجمع عدة أحزاب معًا.
ووفقًا للباحث ويليام أوهيرن من جامعة جورج-أوغست-غوتنغن، فإن “الفكرة الرئيسية من دراستنا هي أن توزيع الموارد قد يكون مدفوعًا بشبكة العلاقات الاجتماعية داخل المجتمع، وليس بقيمة المورد نفسه.” وهذا يعني أن شكل المجتمع يلعب دورًا أكبر في تحديد من يحصل على اللحم، مقارنةً بالجودة أو كمية اللحم المتاح.
داخل الوحدة، يميل التشارك في اللحوم إلى أن يكون أكثر طبيعية وسلاسة. يصف الباحثون هذا بأنه “تشارك سلبي”، حيث يمكن للأفراد أخذ قطع من اللحم من الذبيحة دون طلب صريح أو تدخل من حامل اللحم. هذا السلوك يشبه ما يحدث عندما يشترك الأصدقاء في طبق جانبي، حيث يسمح كل فرد للآخر بأخذ ما يريد.
في مستوى الحزب، يصبح توزيع اللحم أكثر تعقيدًا. يلاحظ الباحثون أن الأفراد يتنافسون بشكل أكبر على اللحم، وأن التشارك يكون أقل تكرارًا. بدلاً من ذلك، تنتقل اللحوم من خلال طرق مثل التقاط بقايا الطعام، أو الانتظار بصبر حتى ينتهي الفرد الآخر من الأكل.
الروابط الاجتماعية ودور الاستمالة
ولعبت الروابط الاجتماعية دوراً محورياً، وخاصة تلك التي تقوى من خلال الاستمالة المتبادلة. الاستمالة، أو ما يعرف بالعناية بالنظافة المتبادلة، تعتبر وسيلة لتقوية العلاقات وتخفيف التوتر داخل المجموعة. يقول أوهيرن: “السلوك الذي يشير بشكل أفضل إلى وجود علاقات قوية في قرود البابون هو الاستمالة، وهي تشبه الدردشة بين البشر كوسيلة للاسترخاء والتواصل”.
يُلاحظ أن الأفراد الذين يقضون وقتًا أطول في الاستمالة المتبادلة يميلون إلى الحصول على كمية أكبر من اللحم. وهذا يشير إلى أن العلاقات الاجتماعية القوية يمكن أن تساعد الأفراد على الوصول إلى الموارد القيمة. بمعنى آخر، الأصدقاء والجيران هم أول من يحصل على قطعة من اللحم.
كما رصدت الدراسة سلوكًا فريدًا يُعرف بـ “الاصطفاف حول الذبيحة”. في هذا السلوك، يجتمع الأفراد في حلقة صامتة حول الذبيحة، وينتظرون دورهم في الأكل. ويلاحظ الباحثون أن الأفراد الذين يقفون أقرب جسديًا واجتماعيًا إلى حامل اللحم هم الأكثر عرضة للحصول على النصيب الأكبر.
هذا السلوك يوازي ما يحدث في الطوابير البشرية، حيث يحترم الأفراد ترتيبهم ويدورهم في الحصول على الموارد. إن وجود مثل هذا السلوك في مجتمعات البابون يشير إلى أن بعض جوانب السلوك الاجتماعي قد تكون متجذرة بعمق في تطور الثدييات.
تشير الأبحاث إلى أن فهم ديناميكيات تقاسم الطعام في هذه المجتمعات يمكن أن يوفر رؤى قيمة، ليس فقط حول تطور السلوك الاجتماعي لدى الحيوانات، ولكن أيضًا حول تطور التعاون والمساواة لدى البشر. كما أن دراسة سلوكيات توزيع الموارد يمكن أن تساعد في تفسير بعض النزاعات الاجتماعية والاقتصادية التي تحدث في المجتمعات البشرية.
من المتوقع أن يستمر الباحثون في جمع البيانات حول سلوكيات البابون، بهدف تحديد العوامل الإضافية التي تؤثر على توزيع اللحوم. كما يخططون لإجراء دراسات مقارنة بين مجتمعات البابون المختلفة، لفهم كيف تختلف سلوكيات تقاسم الطعام حسب الظروف البيئية والاجتماعية. وسيكون تحليل البيانات الجديدة، وربطها بالدراسات السابقة، محور التركيز في الأشهر القادمة، مما قد يؤدي إلى فهم أعمق لأسس السلوك الاجتماعي في كل من عالم الحيوان والبشر.



