مقدمة للترجمة

في ليلة جميلة وهادئة، بينما تتطلع إلى السماء في صمتٍ ورهبة، يقع أمام عينيك عالَم غير عالَمك، عالَم واسع فسيح ربما يسع العقول الجامحة التي تضيق بها الأرض. تتجلى أمامك محاسن الكون ومفاتنه كقطعة من المخمل الأسود المترع بالجواهر والألماس. الكل يسبح في فلكه الخاص، ويؤدي أبدع رقصاته الكونية. قد يخيَّل إليكَ أن كل شيء في الكون يتدفق بهدوء ولا يُعَكِّر نسقه شيء، إلا أن ذلك أبعد ما يكون عن الحقيقة. لو تعمقت قليلًا، لَعلمت أن ما تراه الآن هو أقل بكثير مما قد تتخيّل، فلطالما أسر هذا العالم الغامض عقل الإنسان ووضعه في حيرة وتعجب؛ ألم تتساءل يومًا: هل الكون أبدي؟ ما حجمه بالضبط؟ وكيف يبدو شكله؟ وما مدى سرعة توسعه؟ وإذا لم يكن أبديًّا فمتى سينتهي!؟  هذه المادة الممتعة والمبسطة قدر الإمكان من نيوساينتست تجيب عن هذه الأسئلة وأكثر.

نص الترجمة

لو تسنى لك قبل قرن من الزمان أن تسأل عالِم فلك عن عمر الكون، فربما كانت إجابته أن الكون “أبدي” أو “غير نهائيّ”. وتُعدُّ هذه إجابة سهلة لتجنب السؤال عن كيفية نشأة الكون. فقد ترسخت هذه الفكرة عام 1917 عندما قدَّم ألبرت أينشتاين نموذجًا للكون الثابت باستخدام نظريته النسبية العامة (في هذا النموذج، كان يُفترض أن الكون في حالة توازن، أي لا يتوسع أو ينكمش، مما أدى إلى فكرة أن عمر الكون قد يكون غير نهائيّ*). تصف نظرية النسبية العامة لأينشتاين الجاذبية على أنها القوة التي تشكّل الكون نتيجة لتأثير الكتلة على “نسيج” الزمكان، وهو ما يؤدي إلى انحناء هذا النسيج. لكن في منتصف العشرينيات، أثبت عالم الفيزياء الفلكية جورج لومتر -استنادًا إلى هذه النظرية- أن الكون ليس ثابتًا أو ساكنًا، بل هو في توسع مستمر. وبناءً على ذلك، استنتج أن الكون كان أصغر في الماضي (وهو ما يعني أن له بداية وليس أزليًّا)*.

في ستينيات القرن العشرين، طرأ تغيّرٌ على فكرة لوميتر التي تشير إلى أن كل ما في الكون كان قابعًا في الأصل داخل “ذرة بدائية”. وحدث هذا التغيّر عندما اكتشف علماء الفلك أقدم ضوء في الكون، وهو “إشعاع الخلفية الكونية الميكرويّ”، فقد أشار هذا الاكتشاف إلى أن كل شيء في الكون بدأ في حالة شديدة السخونة والكثافة فيما يُعرف الآن بنظرية “الانفجار العظيم”. واليوم يعتقد معظم علماء الفلك أن الانفجار العظيم حدث قبل حوالي 13.85 مليار سنة، ويعتمد هذا الرقم على تقديرات معدل توسع الكون. ومع ذلك، تنوء صدور العلماء ببعض الشكوك حول هذا الرقم، لأن الطرق المختلفة المستخدمة لقياس معدل التوسع تعطي قيمًا مختلفة. وبناءً على ذلك، يتراوح العمر المحتمل للكون بين 12 مليار و14.5 مليار سنة.

يمكننا مقارنة عمر الكون بتقديرات عمر أقدم نجم معروف، وهو “إتش دي 140283” المعروف أيضًا بنجم “متوشلخ”. يُعدُّ هذا النجم قديما جدًّا لأن تكوينه يوضح أنه يتشكل بصورة شبه كاملة من غازي الهيدروجين والهيليوم، وهما العنصران الأساسيان اللذان كانا سائدين بعد الانفجار العظيم. ويعتقد علماء الفلك أن عمر هذا النجم يبلغ حوالي 14.46 مليار سنة، مع هامش خطأ قد يزيد أو يقل عن 0.8 مليار سنة. وهذا يعني أن عمر النجم قد يكون أقدم قليلًا من عمر الكون نفسه (وهو ما يثير بعض التساؤلات التي قد تحوم على غير هدى في رؤوس العلماء حول دقة التقديرات الحالية لعمر الكون*).

إن تقارب عمر أقدم نجم معروف مع التقديرات الحالية لعمر الكون يشير إلى أن النموذج القياسي لعلم الكونيات -وهو النموذج الشامل والنسبي الذي يشرح كيفية تطور الكون- يمكن أن يعوَّل عليه لدقته وموثوقيته. وبالتالي، فإن عمر الكون نفسه لا يثير شكوكًا كبيرة حوله. ومع ذلك، فثمة العديد من الخصائص الأخرى للكون التي لا يزال العلماء غير متأكدين منها بالدرجة ذاتها.

ما حجم الكون؟

إن تأمُّل السماء ليلًا قد يدفعك إلى التساؤل عن مدى اتساع الكون. فعبر معظم تاريخ البشرية، كان الاعتقاد السائد هو أن الكون منفصل عن الأرض والنجوم المحيطة بها من خلال منطقة غامضة وفاصلة لم تُستكشف بعد. ولكن منذ الثورة العلمية في القرن السابع عشر، طوّر علماء الفلك طرقًا مختلفة لقياس المسافات التي تفصلنا عن الأجرام السماوية. وتُعرَف الطرق المستخدمة لقياس المسافات إلى الأجرام السماوية باسم “سُلَّم المسافة الكونية”. وعن ذلك، يقول جيمس شومبرت من جامعة أوريغون الأميركية، إن هذا السُّلَّم يشبه طريقة “البناء التدريجي”، إذ يعتمد كل جزء من السلم على الجزء الموجود أسفله. يبدأ هذا التسلسل بقياس المسافات التي تفصلنا عن الأجسام القريبة ثم يمتد تدريجيًّا للوصول إلى الأجسام السماوية البعيدة جدًّا، مثل المجرات والنجوم المتفجرة المعروفة باسم “السوبرنوفا” أو “المستعرات العظمى”، التي تكون شديدة السطوع إلى الحد الذي يمكِّننا من رؤيتها عبر مسافات كونية شاسعة.

وهذا يعني أن بإمكاننا قياس حجم الكون بأكمله، أو على الأقل يمكننا المحاولة. فأبعد مجرة ​​معروفة عنا هي GN-z11″”، التي استغرق الضوء المنبعث منها 13.4 مليار سنة ليصل إلينا، أي ما يعادل معظم عمر الكون تقريبا. وخلال هذه الفترة، توسع الزمكان. وبناءً على معدل التوسع المقدَّر من النموذج القياسي، ربما تبعد عنا هذه المجرة الآن حوالي 32 مليار سنة ضوئية. أما بالنسبة إلى الكون المرصود كاملًا، فيقدِّر علماء الفلك أن قطره يبلغ 93 مليار سنة ضوئية، أو ما يقرب من 10²⁶ مترًا. لكن في النهاية علينا أن ندرك أن قياس قطر الكون القابل للرصد يمثل فقط المسافة بين أبعد الأشياء التي يمكننا رصدها. وتأكيدًا على ذلك، يقول توني باديلا من جامعة نوتنغهام البريطانية: “بالطبع لن تسير هذه المسافة ثم تصل إلى حد معين تصطدم فيه بجدار يوحي بنهاية الكون. فالكون يمتد إلى ما وراء هذه المسافة ويتجاوز كل هذه التخيلات”.

على الجانب الآخر، يتعذر علينا رؤية ما يتجاوز هذا الأفق الكوني (وهو أقصى حد يمكننا من خلاله رؤية الكون)، لكننا مع ذلك نعتمد على ما يخبرنا به النموذج القياسي لعلم الكونيات. يعتقد معظم علماء الكونيات أن الكون شهد فترة من التوسع السريع المعروف بـ”التضخم الكوني”. وتُعتبر هذه النظرية أفضل طريقة لتفسير ملاحظاتنا لكون سلس وموحد على أكبر المقاييس، لأن نظرية الكم تشير إلى أن التغيرات الطفيفة في الطاقة في أماكن مختلفة ستؤدي إلى توزيع غير متوازن للمادة (مما يوجِد مناطق كثيفة وأخرى أقل كثافة*). وبدون التضخم، لم يكن من الممكن أن تتساوى هذه التباينات العشوائية وتتحول إلى الكون الموحد، فقد ساهم التضخم في توزيع المادة بصورة أكثر تجانسًا بعد الانفجار العظيم.

تقترح نظرية التضخم الكوني كونًا أكبر بكثير من الجزء الذي يسعنا رؤيته. إذ يفترض العلماء أن “حقل التضخم” الذي يُعتقد أنه كان مسؤولًا عن عملية التضخم توقف في منطقتنا من الكون، بمعنى أن هذه العملية من التوسع قد توقفت في الجزء الذي يسعنا رؤيته من الكون، ولكنها استمرت في التوسع  في أجزاء أخرى من الكون الأوسع. وبالتالي يمكن أن يكون الكون أكبر بكثير مما نراه، وقد يكون حجمه مهيب إلى الحد الذي يتجاوز فيه قدرتنا على التخيل. وسواء كانت هذه المناطق جزءًا من كوننا أم منفصلة عنه، فهذه مسألة تتعلق برؤيتنا للموضوع. ولفهم حجم الكون وراء الأفق الكوني، سنحتاج إلى صورة أوضح عن اللحظات الأولى من الكون.

ما مدى سرعة توسع الكون؟

يتوسع الزمكان في الكون باستمرار، كما يحدث عندما ينتفخ العجين في الفرن (أو كمت ينتفخ البالون*). وجاء الدليل على هذا التوسع عام 1929، عندما أثبت عالم الفلك إدوين هابل أن المجرات البعيدة تبتعد عن مجرتنا بسرعة متزايدة. بعدها تمكن العلماء من قياس معدل التوسع، الذي يُقاس بسرعة التمدد لكل مليون فرسخ فلكي في الثانية (والفرسخ الفلكي هو وحدة لقياس المسافات في الفضاء الخارجي، ويعادل حوالي 3.26 سنة ضوئية، أي حوالي 31 تريليون كيلومتر*). كما أن معدل التوسع تم من خلال قياس المسافات التي تفصل بيننا وبين العديد من المجرات، ومقارنتها بانزياحها نحو الأحمر”، وهو مقدار تمدد الضوء المنبعث من كل مجرة نتيجة توسع الكون.

في أوائل الألفينيات، أظهر تلسكوب هابل الفضائي أن معدل التوسع الحالي للكون يقترب من 75 كيلومترًا في الثانية لكل فرسخ فلكي. اعتقد علماء الفلك حينذاك أنهم حسموا هذه المسألة بمعرفتهم لمعدل توسع الكون وكيفية حسابه بدقة، وأن كل ما بقي هو قياس تباطؤ هذا التوسع نتيجة تأثير الجاذبية. لكن ما إن حصلوا على النتائج، حتى اصطدموا بمفاجأة صادمة تسببت في لجة متقافزة من الأفكار التي يصعب معها السكون.

في أواخر التسعينيات، اكتشف العلماء أن توسع الكون لم يكن يتباطأ كما كان متوقعًا، بل على العكس من ذلك كان يتسارع، وهو ما لم تستطع أي من قوانين الفيزياء المعروفة حينذاك تفسيره. والعنصر الوحيد الذي قد يفسر هذا هو عامل تصحيحي أضافه أينشتاين في معادلاته للنسبية العامة عندما اعتقد أن الكون ثابت، وأطلق عليه “الثابت الكوني”. عندما يخضع هذا الثابت لتعديل، فإنه يعكس تأثير التباطؤ الناتج عن الجاذبية ويحفز التوسع المتسارع. وهذا الاكتشاف أدى إلى ظهور مفهوم “الطاقة المظلمة”، وهي إضافة غامضة لم يتمكن العلماء حتى الآن من تحديد ماهيتها ولا كيفية عملها.

في عام 2013، ازدادت المسألة تعقيدًا عندما قدَّم القمر الصناعي بلانك التابع لوكالة الفضاء الأوروبية “إيسا” أدق خريطة حتى الآن لإشعاع الخلفية الكونية الميكروي (الإشعاع الباقي من الانفجار العظيم*). وبإدخال هذه البيانات في النموذج القياسي لعلم الكونيات، وتشغيل الحسابات الزمنية بناءً على هذا النموذج، توصل الباحثون إلى أن الكون يجب أن يتمدد بمعدل 68 كيلومترًا في الثانية لكل ميغا (مليون) فرسخ فلكي، وهو أبطأ من المعدل الناتج عن دراسة المستعرات العظمى (السوبرنوفا).

وفي محاولة لجعل قيمتي معدل التوسع المكتشفتين متوافقتين، قرر العلماء تحسين حساباتهم وتقليل مصادر الخطأ المحتملة. لكن بدلًا من تقليص الفجوة بين القيمتين، ازداد التباين بينهما. وتشير هذه الفجوة إلى أن النموذج القياسي الحالي يتعذر عليه وصف الكون المرصود. ونتيجة لذلك، بدأ بعض علماء الفلك يتساءلون عما إذا كانت نظرية النسبية العامة، التي تُشكِّل الأساس لهذا النموذج، بحاجة إلى إعادة تقييم.

تقول تيسا بيكر عالمة الفلك بجامعة كوين ماري بلندن: “على الرغم من  أن اختبارات الجاذبية داخل النظام الشمسي دقيقة للغاية، فإن هناك احتمالا كبيرًا بأن تعمل الجاذبية بطريقة مختلفة على الأبعاد الكبيرة للكون على عكس ما توقعه أينشتاين”. وتضيف أن القيود التجريبية التي لدينا حول كيفية عمل الجاذبية على مسافات قريبة من مليون فرسخ فلكي ضعيفة جدًّا، إضافة إلى أن قوة الجاذبية قد تكون أقوى بنسبة 10 إلى 20% مما كنا نظن على هذه المسافات الكبيرة.

صحيح أن الباحثين متحمسون للغاية للتطورات الجديدة المتعلِّقة بالجاذبية والنموذج القياسي، إلا أن كريس فان دين بروك، وهو فيزيائي في المعهد الوطني للفيزياء دون الذرية في أمستردام، لا يزال غير مستعد للإعلان عن نهاية النموذج القياسي إذ يقول: “لا يزال هناك توتر في النتائج والتباين بين القيم، ولكنني لست مقتنعًا بعد بأن هذه الأمور تستدعي الذعر أو التسرع في اتخاذ القرارات بهذا الشأن”.

Said سعيد - المادة المظلمة تشكل حوالي 80 في المائة من كتلة الكون - وكالة ناسا (استخدام متاح مع ذكر المصدر ) - هل سبقت المادة المظلمة الانفجار الكبير؟

ما وزن الكون؟

لفترة طويلة، ظل هاجس حساب كمية الأشياء الموجودة في الكون يحوم على غير هدى في بال علماء الفلك، ويعود ذلك إلى أن جزءًا كبيرًا من هذه المادة غير مرئي. خذ على سبيل المثال المادة المظلمة، التي أُطلق عليها هذا الاسم لأنها لا تتفاعل مع الضوء. اكتشف العلماء حاجتهم إلى المادة المظلمة عندما لاحظوا أن الجاذبية الناتجة عن المادة المرئية فقط غير كافية لتفسير كيفية بقاء المجرات والمجموعات المجرية متماسكة. ومنذ ذلك الحين، أُضيفت المادة المظلمة بوصفها عنصرًا أساسيًّا في النموذج القياسي لعلم الكونيات، إذ تؤدي دورًا مهمًّا في تشكيل بنية الكون.

ورغم ذلك، لم نتمكن بعد من اكتشاف المادة المظلمة بصورة مباشرة. ولكن من خلال دراسة نمط تقلبات درجة الحرارة في إشعاع الخلفية الكونية الميكروي، التي تشير إلى تفاعل المادة والطاقة في مراحل مبكرة من عمر الكون، يمكن للفيزيائيين تقدير كمية المادة المظلمة مقارنةً بالمادة العادية التي تصل إلى 5 أضعاف المادة المظلمة. وبناءً على هذه التقديرات، فإن الكون يتشكل تقريبًا من 5% من المادة العادية، و27% من المادة المظلمة، و68% من الطاقة المظلمة، وهي نوع آخر غامض من الكتلة والطاقة. صحيح أنه يمكن أن يُعوَّل على هذه النسب حاليًّا إلا أنها قد تتغير مع تقدم الأبحاث.

ولكن مؤخرًا ظهرت مشكلة جديدة تتعلق بقياس مدى تجمع المجرات على مقياس يبلغ 8 كيلوفراسخ فلكية. ويعتمد هذا المقياس، المعروف بـ”سيغما-8″، على كمية الكتلة في الكون، لأن الجاذبية الناتجة عن هذه الكتلة هي التي تجذب العناقيد المجرية معًا. ويمكن قياس “سيغما-8” بناءً على الملاحظات الفلكية، ويمكن التنبؤ به بناءً على النموذج القياسي لعلم الفلك. ومع ذلك، تُظهِر القياسات الدقيقة تباينًا مقلقًا بين القيم المقاسة والقيم المتوقعة.

وبالاعتماد على النسب الثابتة للأنواع المختلفة من المادة وسلوك الجاذبية وفقًا لنظرية النسبية العامة، يتوقع النموذج القياسي أن تكون قيمة سيغما-8 هي 0.81، ولكن في عام 2017 عندما قرر هندريك هيلدبراندت وفريقه من جامعة الرور في بوخوم بألمانيا، قياس هذه القيمة، حصلوا على نتيجة مختلفة. فقد استخدم هو وفريقه تقنية تُسمى “الأثر العدسي الثقالي الضعيف”، تقيس مدى تشوه الضوء القادم من المجرات البعيدة بسبب وجود أجسام ضخمة تحول بيننا وبين هذه المجرات. وخرجت قيمة سيجما-8 عند 0.74، مما يشير إلى أن هناك كمية أقل من المادة في الكون مقارنةً بما يتوقعه النموذج القياسي.

لكن لحسن الحظ، ثمة مراصد مستقبلية مثل “مرصد فيرا روبين” الأرضي و”مهمة إقليدس” الفضائية التابعة لوكالة الفضاء الأوروبية إيسا، من المقرر أن تعمل على تحسين دقة قياس قيمة “سيغما-8”. ولكن إذا استمرت الفجوة بين القياسات المتوقعة والقياسات الفعلية، فيستعين على العلماء تفسير السبب وراء ذلك. وإذا لم يكن هناك تفسير مقنع، فقد يكون هذا سببًا إضافيًّا للاعتقاد بأن النموذج القياسي لعلم الكونيات يحتاج إلى تعديل أو تحديث شامل.

يلاحظ العلماء وجود المادة المظلمة بطريق غير مباشر، عن طريق رصد أثرها الجذبوي على المجرات وعناقيد المجرات

ما شكل الكون؟

عندما يتحدث علماء الكونيات عن هندسة الكون، فإنهم يقصدون بذلك الشكل العام للزمكان (الزمان والمكان). وفي كوننا الآخذ في الاتساع، يوجد احتمالان أساسيان. يشير الاحتمال الأول إلى أن كوننا مغلق أو كروي، فإذا كانت الجاذبية الناتجة عن كل المادة في الكون أقوى من قوة التوسع، فستجمع الجاذبية في النهاية كل شيء معًا. وفي هذه الحالة، سيبدو كوننا في حالة “مغلقة” أو “كروية”. أما إذا كان العنصر الذي يدفع التوسع أقوى من الجاذبية، فإن الكون سيستمر في التوسع إلى الأبد. في هذه الحالة، يصبح الكون مفتوحًا وأشبه بالسرج.

ليس واضحًا تمامًا ما إذا كان الكون سيبقى في حالة توسع مستمرة أم سينتهي بتجمع كل شيء معًا، وهو ما يعني أنه في وضع دقيق بحيث يمكن أن يتحرك في اتجاه أي من الخيارين بناءً على القوى المؤثرة. تساعدنا نظرية التضخم الكوني في فهم سبب عدم ظهور الكون بوضوح بوصفه كونًا منحنيًا سواء كان مغلقًا أو مفتوحًا. ترى هذه النظرية أن الكون شهد فترة توسع سريع جدًّا في اللحظات الأولى بعد الانفجار العظيم. (هذا التوسع السريع جعل الكون يبدو مسطحًا جدًّا اليوم، لدرجة أن أي انحناء كان موجودًا في البداية قد تمت “تسويته” بفعل هذا التوسع السريع*)؛ لذا، نرى الكون اليوم على هيئة مسطحة؛ مما يجعل النظرية جزءًا أساسيًّا من النموذج القياسي لعلم الكونيات. ومع ذلك، فلا تزال هناك شكوك حول ما إذا كانت هذه الفرضية صحيحة تمامًا.

على الجانب الآخر، بدأ أليساندرو ميلكيوري وفريقه من جامعة سابينزا في روما بإيطاليا تحليل أحدث البيانات من مهمة بلانك، التي قاست تقلبات درجة الحرارة في إشعاع الخلفية الكونية الميكروي بدقة غير مسبوقة. ومن الأشياء التي حللها الباحثون مدى تشوّه الضوء القادم من الخلفية الكونية الميكروية بسبب “الأثر العدسي الثقالي الضعيف”. فأثناء انتقاله إلينا، اكتشف الفريق أن ثمة تشوّهًا أكبر مما يتوقعه النموذج القياسي لعلم الكونيات، إلا إذا أُزيل افتراض أن الكون مسطح. وتعليقًا على ذلك يقول ميلكيوري: “إذا عدّلنا النموذج للسماح بوجود انحناء في الكون، فسنجد أن الحل الأفضل هو كون مغلق ينطوي على كمية أكبر من المادة المظلمة.

وفي دراسة لاحقة عام 2020، أثبت ميلكيوري وزملاؤه أن نظرية الكون المغلق تزيد تفاقم التناقضات التي يراها علماء الكونيات في أماكن أخرى من النموذج القياسي، مثل الحقيقة التي مفادها أن الكون آخذ في الاتساع بسرعة أكبر مما تتوقعه النماذج الحالية. كما يغدو تفسير ذلك التناقض أكثر صعوبة إذا كان الكون كرويًّا وليس مسطّحًا. تشير معظم القياسات الأخرى إلى أن الكون مسطح. ولعل الملاحظة الأخيرة التي تشير إلى أن كوننا مغلق مجرد نتيجة عشوائية قد تختفي عند إجراء مسوح كونية جديدة باستخدام أدوات مثل تلسكوب فيرا روبين أو القمر الصناعي إقليدس على سبيل المثال.

ولكن إذا لم تكن الملاحظة الأخيرة مجرد صدفة، فإن أفضل طريقة للمضي قدمًا هي جمع بيانات أفضل حول الطبيعة الحقيقية للانفجار العظيم والتضخم الكوني. وهنا يأتي دور موجات الجاذبية (أو الموجات الثقالية). فهذه التموجات في الزمكان، التي تُعرف بأنها نتيجة للتصادمات بين الثقوب السوداء البعيدة، يمكن أن تفتح أيضًا نافذة على الكون المبكر إذا تمكنا من اكتشاف بعض هذه الموجات التي تصل إلينا من أبعد نقطة في الكون. ومن جانبه، يشير فان دين بروك إلى وجود العديد من العمليات أو الآليات الكونية التي ربما تسببت في إطلاق موجات جاذبية بعد وقت قصير جدًّا من الانفجار العظيم، مثل عملية التضخم الكوني.

إن الموجات الثقالية البدائية (التي نشأت في اللحظات الأولى من عمر الكون*) قد تَظهر اليوم بوصفها خلفية مستمرة من التموجات في جميع أنحاء الكون. وتختلف هذه الموجات البدائية عن موجات الجاذبية التي رصدناها من تصادمات الثقوب السوداء، لأن طول موجاتها أطول بكثير نتيجة لتوسع الكون. تعمل المعدات الحالية لرصد الموجات الثقالية على ترددات عالية للغاية ولا يمكنها اكتشاف هذه الموجات البدائية. لكن، من المخطط أن تتيح لنا أداة الفضاء المخطط لها من وكالة الفضاء الأوروبية، وهي هوائي معروف باسم “ليسا”  (هوائي مقياس التداخل الليزري الفضائي)، فرصة لرصد هذه الموجات، بفضل قدرتها على العمل على ترددات أقل تتناسب مع طول موجاتها الطويلة.

في السياق ذاته، يقول توني باديلا من جامعة نوتنغهام البريطانية: “إذا تمكّنا من رصد الموجات الثقالية البدائية، فسيكون الأمر مثيرًا للغاية، وعندها سنبدأ في تعلم الكثير عن الكون”. وربما سيكون أحد أهم الأشياء التي نتعلمها هو ما إذا كانت نظرية التضخم الكوني قد حدثت بالفعل، وما إذا كان الكون مسطّحًا في نهاية المطاف كما ترى النظريات الحالية”.

أزمة في علم الكونيات

كم عدد الأكوان الموجودة?

قد تكون نظرية التضخم الكوني، التي ترى أن الكون توسع بسرعة كبيرة في لحظة من تاريخه المبكر، أكثر تعقيدًا مما يعتقد العلماء. تأكيدًا على ذلك، يقول توني باديلا من جامعة نوتنغهام البريطانية: “قد يحدث التضخم في أي مكان وزمان، أي أنه ربما لم يحدث فقط في رقعة الكون التي استطعنا رصدها حتى الآن. لكن الأهم من ذلك أنه في “رقعتنا” من الكون، حدث التضخم منذ زمن بعيد وتمدد هذا الجزء للغاية. ولكن من الممكن أن تكون هناك أجزاء أخرى من الكون لا يزال التضخم فيها مستمرًّا”.

تنتج عن هذا السيناريو المعروف باسم التضخم الأبدي مجموعة من “الأكوان الفقاعية” المختلفة التي يتلاحم بعضها مع بعض، مع ظهور المزيد من هذه الأكوان باستمرار. مرحبًا بكم إذن في الكون المتعدد التضخمي. صحيح أنه لا توجد طريقة لرصد هذه الأكوان أو قياسها لأنها تقع خارج حدود الكون المرئي (الذي يمكننا رصده)، إلا أن العديد من علماء الفلك يعتقدون أن هذا السيناريو موجود بالفعل لأنه نتيجة منطقية لنظريتي التضخم الكوني وميكانيكا الكم اللتين أثبت العلماء صحتهما بدرجات متفاوتة. وعلى الرغم من عدم قدرتنا على رؤية الأكوان الأخرى، فإن ذلك لم يمنع الناس من التكهن بعدد تلك الأكوان ومحتواها.

ينطوي الكون المتعدد الناتج عن نظرية التضخم الأبدي على عدد غير نهائي من الأكوان. وقد يكون ما نجده في كل كون مختلفًا تمامًا عن الكون الذي نعرفه. ظهرت هذه الفكرة نتيجة لمحاولات العلماء تفسير قوة الجاذبية على أنها قوة كمية، أي بنفس الطريقة التي يتم بها تفسير القوى الطبيعية الأخرى. تختلف الجاذبية عن هذه القوى من حيث كونها تُفسَّر حاليًّا عبر النسبية العامة، ولذلك يحاول العلماء إيجاد تفسير كمّي لها، ومن هنا ظهرت نظريات مثل نظرية الأوتار التي تقدم إطارًا لفهم هذه القوة في سياق أكوان متعددة. تستبدل نظريات الأوتار الجسيمات المعتادة بجزيئات صغيرة تشبه الأوتار تهتز في أبعاد متعددة (عادة 10 أو 11 بعدًا حسب النظرية). تتوقع هذه النظريات وجود عدد هائل من الاحتمالات لكيفية عمل الفيزياء في الأكوان المختلفة. كما يمكن لكل كون أن يكون محكومًا بقوانين فيزيائية وقيم مختلفة للثوابت الطبيعية.

ثمة احتمالية لوجود كون آخر، وقد رأينا بالفعل أدلة مادية على وجوده. في عام 2016، اكتشف هوائي أنتاركتيكا الاندفاعي العابر للقارة القطبية (ANITA) جسيمًا عالي الطاقة بدا وكأنه ينطلق من داخل الأرض بدلًا من أن يأتي من الفضاء كما هو معتاد. وبعد عامين، اكتشف العلماء جسيمًا مشابهًا للجسيم الأول. وتشير إحدى التفسيرات المحتملة لهذه الظاهرة إلى أن الجسيم ربما جاء من كون موازٍ ظهر بالتزامن مع كوننا، لكنه يسير في اتجاه معاكس للزمن.

متى سينتهي الكون؟

قبل اكتشاف الطاقة المظلمة، تلك القوة الغامضة التي كان يُعتقد أنها تعمل على تسريع توسع الكون، كان مستقبل الكون يعتمد على الهندسة. فإما أن يكون الكون مغلقًا فينهار على نفسه فيما يُعرف “بالانسحاق العظيم”، وإما أن يكون مفتوحًا فيتوسع إلى الأبد. لكن الآن، يفترض النموذج القياسي لعلم الكونيات أننا نعيش في كون مسطح، وأنه بفضل الطاقة المظلمة، سيستمر في التوسع إلى الأبد.

إذا لم تكن الطاقة المظلمة أكثر غرابة بتغيرها بمرور الوقت، فإن توسع الكون نفسه سيصبح في النهاية ثابتًا؛ مما يحفز المجرات على التباعد أكثر فأكثر. وعن ذلك، تقول توني باديلا من جامعة نوتنغهام البريطانية: “سنُترَك وحدنا تقريبًا في الكون”. في هذا السيناريو الذي يُسمى أحيانًا بموت الكون الحراري، أو التجمد العظيم، تلقى جميع النجوم حتفها في النهاية، وتنمو الثقوب السوداء، وتميل المادة الباقية في الكون إلى التساوي في درجة الحرارة. وعندما تختفي الفروق في درجات الحرارة، يتعذر على الطاقة أن تتدفق، وبالتالي سيدخل الكون تدريجيًّا في نوع من الشيخوخة الكونية، فلا يحدث أي شيء يذكر على الإطلاق.

أما السيناريو الآخر فهو “التمزق العظيم”. في هذا السيناريو ستستمر الطاقة المظلمة في اكتساب القوة ويستمر توسع الكون. وعن ذلك، تقول تيسا بيكر عالمة الفلك بجامعة كوين ماري بلندن: “يُعد هذا السيناريو أكثر إثارة للاهتمام، لأن الطاقة المظلمة قد تصبح قوية لدرجة أنها تتغلب على الجاذبية التي تُبقي الأجرام السماوية معًا. في النهاية، قد تنفصل حتى الأشياء التي ترتبط بالجاذبية، مثل المجرات، بسبب القوة المتزايدة للطاقة المظلمة”.

ولن يتبين لنا أيّ السيناريوهين صحيح إلا بعدما نتعرف على طبيعة الطاقة المظلمة. ولكن قبل أن يخطر على بالك أن كل هذه الأمور بعيدة جدًّا، وستحدث في المستقبل البعيد، ولست بحاجة إلى القلق بشأنها، فإن ثمة احتمالًا بأن ينتهي الكون في أية لحظة. ويعتمد هذا الاحتمال على فكرة مستمدة من نظرية الأوتار، مفادها أن هناك مساحة شاسعة زاخرة بأكوان متعددة ذات قوانين فيزيائية مختلفة. وإذا كان هذا صحيحًا، فقد يؤدي كوننا إلى خدعة كمية تسمى “النفق”، إذ يتحول كوننا فجأة إلى كون آخر بخصائص مختلفة. وقد تتغير ثوابت الطبيعة وربما حتى قوانين الفيزياء لتغدو مختلفة تمامًا عما نعرفه.

إذا حدث هذا التحول فجأة، فستكون لذلك عواقب كارثية، لأن تركيب الذرات يعتمد على التوازن الدقيق بين قوى الطبيعة. وإذا اختلّ هذا التوازن، فقد تتفكك الذرات التي تتكون منها جميع الأشياء بسرعة هائلة. وتأكيدًا على ذلك، تقول بيكر: “إذا ما تعرضنا لواحدة من هذه التحولات خلال فترة شرب شاي ما بعد الظهيرة على سبيل المثال، فإنك لا تكاد تلاحظها. فبمجرد أن ترمش، سينتهي كل شيء في لمح البصر (بمعنى أن هذا التحول سيكون سريعًا لدرجة أنك لن تلاحظ حدوثه. ستصبح الأمور عصية على الإدراك وتتجاوز قدرتنا على الفهم أو الاستيعاب*). في نهاية المطاف، يتمحور السؤال الأهم بالنسبة لعلماء الفلك حول ما إذا كان باستطاعتهم تأكيد صحة نموذجهم القياسي قبل حدوث هذه التحولات الكارثية التي قد تُنهي كل شيء في لمح البصر.

شاركها.
اترك تعليقاً

2024 © السعودية خبر. جميع حقوق النشر محفوظة.