في العقد الأخير، أصبح علم الكونيات ضحية لنجاحه، حيث أنتجت المسوح الفلكية العملاقة مثل “ديزي” ومهمة إقليدس كميات هائلة من البيانات حول توزيع المجرات وبنية الكون على نطاق واسع. لكن تحويل هذه البيانات إلى قيود دقيقة على نماذج المادة والطاقة يتطلب عادةً محاكاة معقدة وحسابات مكثفة تستغرق أيامًا على أجهزة الكمبيوتر العملاقة، مما يجعل البحث في هذا المجال مقصورًا على المؤسسات الكبيرة. الآن، يأتي خبَرٌ لافت من جامعة واترلو بخصوص محاكاة الكون.
فريق بحثي من جامعة واترلو تمكن من تطوير أداة برمجية جديدة تُسمى “إيفورت-جيه إل” (Effort-JL) تسمح بإجراء محاكاة الكون وتحليل بنيته على جهاز كمبيوتر محمول وبزمن أقرب إلى ساعات، بدلًا من أيام. هذا الإنجاز يمثل تقدمًا كبيرًا في إمكانية الوصول إلى أدوات البحث الكوني.
محاكاة في حاسوب محمول
الفكرة الأساسية وراء “إيفورت-جيه إل” ليست في تبسيط المعادلات الفيزيائية الأساسية، بل في بناء اختصار حسابي ذكي. تعمل الأداة كمحاكٍ لنوع من النماذج النظرية المعروفة باسم “نظرية الحقل الفعال للبنية واسعة النطاق”. هذه النظرية تسعى لفهم كيفية تكتل المادة، بما في ذلك المادة المظلمة، لتشكيل الشبكة الكونية المعقدة التي نراها.
لكنّ تطبيق هذه النظرية مباشرةً على البيانات يتطلب عمليات حسابية متكررة ومعقدة، تتغير مع كل تعديل طفيف في قيم المعاملات. للتغلب على ذلك، جمع مطورو “إيفورت-جيه إل” بين أساليب عددية متقدمة وتقنيات “تهيئة” ذكية للبيانات، مما أدى إلى تسريع الحسابات مع الحفاظ على الدقة المطلوبة في علم الكونيات.
تشبه طريقة عمل المُحاكي تدريب نموذج سريع على تقليد نتائج محاكاة أكثر تكلفة وتعقيدًا. بدلًا من إعادة تشغيل المحاكاة الكاملة في كل مرة، يوفر المُحاكي تقديرات سريعة ودقيقة ضمن نطاق محدد، مما يتيح للباحثين استكشاف مجموعة واسعة من الاحتمالات بسرعة أكبر. تسريع تحليل البيانات الفلكية هو فائدة رئيسية.
التحديات والحلول التقنية
وفقًا للدراسة المنشورة في دورية “جورنال أوف كوسمولوجي آند أستروبارتكل فيزكس”، فإن الأداة الجديدة تعالج بشكل فعال بعض التحديات المرتبطة بالبيانات الفلكية. تستطيع “إيفورت-جيه إل” التعامل مع التشوهات الطفيفة والعيوب التي تظهر غالبًا في البيانات التي تم جمعها عن طريق التلسكوبات. بالإضافة إلى ذلك، تتميز الأداة بقابليتها للتخصيص، مما يسمح للباحثين بتكييفها لتلبية الاحتياجات الخاصة لمشاريعهم البحثية المختلفة.
سيناريوهات جديدة و مستقبل البحث الكوني
الأداة لا تستبدل دور الفيزيائيين، بل تُسرّع عملية الحساب، ومع ذلك يبقى اختيار الفرضيات وضبط المعاملات وتفسير النتائج هو مسؤولية الباحث. وحسبما أوضحت جامعة واترلو في بيان صحفي، فقد قام الفريق بمقارنة أداء “إيفورت-جيه إل” مع أداء “إيفتوفليس” الأصلية، وأكدوا أن هامش الخطأ كان صغيرًا جدًا.
الأهم من ذلك، هو التحول المحتمل في ثقافة البحث العلمي. عندما تصبح النماذج المعقدة، التي كانت حكرًا على أجهزة الكمبيوتر العملاقة، متاحة على أجهزة الكمبيوتر المحمولة، فإن ذلك لا يؤثر فقط على الوقت اللازم للحساب، بل يغير أيضًا أسلوب البحث نفسه. إذ يسمح بالتجريب السريع، وتكرار التحليل مرات عديدة، ومراجعة الفرضيات بشكل مستمر مع ظهور تفاصيل جديدة في البيانات. وهذا يُعزز من إمكانية إجراء اكتشافات فلكية جديدة.
تأتي هذه الأداة في وقت يشهد فيه علم الكونيات طفرة في كمية البيانات المتاحة، مدفوعة بالمسوحات الفلكية الكبيرة. فهم المادة المظلمة و الطاقة المظلمة يظل من أهم التحديات في هذا المجال.
الخطوة التالية المتوقعة هي اختبار أداء “إيفورت-جيه إل” على نطاق أوسع من البيانات، ومشاركتها مع مجتمع علم الكونيات لتعزيزها وتحسينها. يبقى من السابق لأوانه تحديد تأثير هذه الأداة على المدى الطويل، ولكنها تمثل بالتأكيد خطوة واعدة نحو مستقبل أكثر انفتاحًا وفعالية في مجال البحث الكوني.


