لم تعد “الشخصيات” المولّدة بالذكاء الاصطناعي مجرد خيال قادم من المستقبل، بل أصبحت واقعا ملموسا يخاطب مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي بشكل مباشر ويتسلل إلى حساباتهم، وفي بعض الأحيان يحصد أعدادا ضخمة من المتابعين قبل أن يُكتشف زيفه.

ومع تزايد قدرة هذه الشخصيات المزيفة على الإقناع، لم يعد السؤال الأهم كيف تنشأ هذه الشخصيات، بل لماذا يصدّقها الناس؟

وفي مقال نشرته مجلة “سايكولوجي توداي”، سلط الكاتب ماثيو فاتشياني الضوء على الشخصيات السياسية المزيّفة التي ينشئها الذكاء الاصطناعي على مواقع التواصل، متسائلا عن سر نجاحها في خداع شرائح واسعة من الجمهور.

وأوضح فاتشياني -عالم الاجتماع والباحث بقسم علوم وهندسة الحاسوب بجامعة نوتردام في الولايات المتحدة- أن هذه الحسابات الوهمية تنتشر من خلال تقمّص الهوية والتحايل على الخوارزميات، معتبرا أن مواجهتها تستدعي المزيد من الوعي، ودراسة أعمق للتحيّزات الذاتية، إضافة إلى إجراءات صارمة من المنصات الرقمية.

واقع ملموس

ويتابع أن حساب “ميغا ميغان” على منصة “تيك توك” يعد مثالا حيا على تداخل التضليل القائم على الذكاء الاصطناعي مع علم النفس البشري وآليات منصات التواصل، فقد حقق الحساب مئات الآلاف من المشاهدات، لكنه بدا بوضوح -كما أشار عدد من المدوّنين- مزيفا ومنشأ بالذكاء الاصطناعي.

ويعرض الحساب امرأة تتحدث على خلفية موسيقية، مستخدمة عبارات مألوفة عن “الحروب الثقافية”، ومقدّمة ما يرغب قطاع معين من الجمهور في سماعه، على حد تعبير الكاتب.

غير أن التدقيق كشف خللا في أنماط الكلام، مع غياب أي علامات على حضور بشري حقيقي، على غرار الفوضى العفوية في الخلفية، أو التلعثم الطبيعي أثناء الحديث، أو لحظات الارتجال. وبعد الإبلاغ عنه باعتباره حسابا مزيّفا، جرى حظره نهائيا.

وقبل الحظر، لفت أحد صانعي المحتوى الانتباه إلى أن الحساب كان يحاول دفع المستخدمين إلى تنزيل تطبيق معيّن، ما يعني أن الأمر برمّته كان تضليلا اصطناعيا صُمّم ليصبح فيروسيا ويجذب النقرات نحو ما يُسوّق عبر أحد المواقع الإلكترونية.

ويرى الكاتب أن هناك 3 أسباب رئيسية تفسر اقتناع الكثير من مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي بهذه الحسابات:

1- الهوية أهم من المصداقية

يميل الناس إلى تصديق ما يتوافق مع هوياتهم، وليس بالضرورة مع يتوافق مع الحقائق، فإذا عزّز الفيديو قيم الفرد أو رؤيته للعالم، فمن المرجّح أن يتقبله كما هو، ولا يهم كثيرا إذا كان مصدره شخصا حقيقيا أو حسابا مزيفا.

وأصبح المحتوى المولّد بالذكاء الاصطناعي أكثر قدرة على محاكاة مشاعر الناس واستغلال تحيزاتهم المعرفية، وعندما يتوافق المحتوى مع رؤيتهم للعالم، تقل احتمالات التفكير النقدي أو التحقق من المصدر، وقد تجلى ذلك بوضوح في التزييف العميق المرتبط بالحروب والصراعات.

2- قوة الشبكة

عندما يشارك أشخاص تثق بهم حسابات مزيّفة، أو تنتشر داخل مجتمعك، فإنها تكتسب مصداقية من خلال التكرار والألفة. فخوارزمية “تيك توك” لا تهتم بمدى واقعية الحساب، بل تروّج لأي محتوى يزيد تفاعل الجمهور، والنتيجة أن هوية اصطناعية يمكن أن تتغلغل في شبكات بشرية حقيقية وتنتشر على نطاق واسع.

ويخلص فاتشياني إلى أن هذا يمثل مثالا نموذجيا على ما تناوله في أبحاثه، حيث يمكن للمعلومات المضللة أن تنتشر عبر دوائر متشابكة تعزز نفسها بنفسها داخل شبكات التواصل.

فلا تحتاج الحسابات المزيّفة إلى أن تكون مقنعة بحد ذاتها، بل يكفي أن تجد طريقها إلى “غرفة صدى” مناسبة، حيث يجري تكرارها وتعزيزها لتُقدّم كدليل اجتماعي على أنها واقعية بما يكفي للتفاعل معها.

والسبب الرئيس الذي يجعل الناس يصدقون الحسابات المزيفة، هو ذاته ما يجعلهم يقعون في مختلف أشكال التضليل، فالمسألة لا تتعلق بالمعلومة وحدها، بل بالانتماء.

3- دوافع المنصات

لم تُصمم منصات التواصل مثل “تيك توك” من أجل تقديم الحقيقة، بل تبحث عن تحقيق أقصى درجات التفاعل، فكلما كان الفيديو أكثر إثارة، زادت فرص انتشاره.

ويوفر ذلك أرضية خصبة لظهور شخصيات اصطناعية تهدف إلى استفزاز الجمهور وتعزيز الانقسامات، كما أن الحسابات المزيّفة يمكن أن تدعم بعضها البعض، مما يضاعف التفاعل ويدفع بها إلى الواجهة.

مواجهة التضليل

ويتطلب مواجهة هذا النوع من التضليل ما هو أبعد من مجرد التحقق من الأخبار والمعلومات، إذ تحتاج إلى تعزيز الوعي الإعلامي وفهم التحيّزات الذاتية بشكل أفضل.

ولتحقيق مناعة حقيقية، علينا توسيع شبكاتنا الاجتماعية وتنويع علاقاتنا، حتى لا يدفعنا الانتماء السياسي الأعمى إلى تصديق محتوى مزيف لمجرد أنه يتوافق مع مواقفنا وآرائنا السياسية.

وينبغي أن تتعامل المنصات بجدية أكبر مع هذه الحسابات والشخصيات الوهمية المولدة بالذكاء الاصطناعي، وأن توقف تحقيق الأرباح من أسوأ أشكال المحتوى المزيف.

شاركها.
اترك تعليقاً