مع بداية عشرينيات هذا القرن لاحظ العديد من الخبراء أن القانون الذي صاغه غوردون مور عام 1965، والقاضي بتضاعف سرعة المعالجات كل عامين (تم تعديل المدة لاحقاً إلى 18 شهراً) لم يعد يعمل بنفس الكفاءة التي كان عليها في السابق.
ويرجع ذلك إلى أن الترانزستورات بحجم 3 نانومترات المتوفرة اليوم، ونانومترين -التي يجري اختبارها حالياً من قبل سامسونغ وشركات أخرى- اقتربت من الحدود المادية لمدى صغر حجم الترانزستورات التي يمكن تصنيعها ووضعها على الرقائق الإلكترونية.
لكن التقدم في أداء الحواسيب وكفاءتها مستمر من خلال مسارات تكنولوجية أخرى، مثل تحسين الهندسة المعمارية للمعالج وتحسين البرمجيات والخوارزميات. ولتوفير سرعات أعلى، تزايد اللجوء إلى بناء حواسيب عملاقة مكونة من آلاف المعالجات.
الحواسيب العملاقة
احتل العملاق فرونتير (Frontier) المرتبة الأولى كأسرع حاسوب وفق قائمة أسرع 500 حاسوب في العالم ليونيو/حزيران 2024، التي يصدرها موقع “top500.org.” وتجاوزت سرعة فرونتير 1.1 إكزا فلوب (ExaFLOP) أي واحد وأمامه 18 صفرا (مليار المليار) وهي عملية حسابية في الثانية الواحدة. ويوجد هذا الحاسوب العملاق في مختبر أوك ريدغ الوطني للأبحاث في ولاية تينيسي التابع لوزارة الطاقة الأميركية. وبلغت تكاليف صنع فرونتير 600 مليون دولار، وبدأ تركيبه والعمل بهِ عام 2021، ووصل لكامل طاقته عام 2022.
ويستخدم هذا الحاسوب العملاق لإنجاز مهام عديدة، بما في ذلك الأبحاث العلمية المتقدمة، ومحاكاة التغيرات المناخية، والبيولوجيا الجزيئية، وتحليل الجينوم، وتصميم الأدوية، مما يساعد في تطوير علاجات جديدة وفهم الأمراض على مستوى أعمق، ويستخدم أيضاً في تحليل البيانات الكبيرة، وتطوير الذكاء الاصطناعي، والعديد من الاستخدامات الأخرى التي تتطلب قدرات حسابية فائقة.
وتم تجهيز هذا الحاسوب العملاق بـ9.472 وحدة معالجة مركزية و37.888 وحدة معالجة رسومية من شركة “إيه إم دي” (AMD)، أي ما مجموعه 47.360 معالجاً تعمل جنباً إلى جنب لتقديم قوتها الحسابية المذهلة. وهذه الحواسيب العملاقة لا تكفي لحل جميع المشكلات الحسابية في حقبة الذكاء الاصطناعي، بعد أن وصلت رقاقة الحوسبة التقليدية إلى حدودها القصوى تقريباً، وبرزت بالتالي حاجة ملحة لاستكشاف نماذج حوسبة جديدة قادرة على مواصلة مسيرة زيادة سرعة الحسابات، ومن ثم ازدهر العمل على الحوسبة الكمومية.
الحوسبة الكمومية
بدأ وضع الأسس النظرية للحوسبة الكمومية عام 1981، من قبل ريتشارد فاينمان، العالم الأميركي الحائز على جائزة نوبل في الفيزياء، ومن ثم على أبحاث الفيزيائي الإنجليزي ديفيد دويتش لعام 1985، حيث أرسى الاثنان المبادئ الأساسية للحوسبة الكمومية. وتمثلت فكرة فاينمان في أن الحاسوب الكمومي سيكون فعالاً في محاكاة الكون الذي يعمل بشكل أساسي وفق ميكانيكا الكم.
وتستخدم الحوسبة التقليدية البت التقليدي “بي آي تي” (bit) التي يمكن أن يكون إما 0 أو 1 فقط، بينما تستخدم الحوسبة الكمومية البت الكمومي، أو الكيوبت (qubit) الذي يمكن أن يكون في حالة 0 أو 1 أو في حالة تراكب بينهما (Superposition) مما يعني أنه يمكن أن يكون 0 و1 في نفس الوقت بدرجات مختلفة، وهذا ما يعطي الحوسبة الكمومية قوتها الكبيرة، حيث يمكن للكيوبتات إجراء عدد كبير من العمليات الحسابية في وقت واحد، مما يجعلها أكثر فعالية في حل بعض المشكلات المعقدة مقارنة بالحوسبة التقليدية.
وعند وجود كيوبتين، يمكن أن تكون كل كيوبت في حالة تراكب، مما يعني أن النظام يمكن أن يمثل 4 حالات في نفس الوقت: 00، 01، 10، و11. وكلما زاد عدد الكيوبتات، زاد عدد العمليات الممكن إجراؤها في نفس الوقت. فإذا كان لدينا 3 كيوبتات، على سبيل المثال، يمكننا إجراء 2 مرفوعة للأس 3 عمليات، أي 8 عمليات في آن واحد، أما إذا كان لدينا 100 كيوبت، فيمكننا إجراء 2 مرفوعة للأس 100 عملية في آن واحد (أي 1267 متبوعة بـ27 صفرا تقريباً) وهكذا. وهذا العدد الهائل من العمليات المتزامنة يعكس قوة الحوسبة الكمومية، لكنه يعتمد على القدرة على الاستفادة من تلك الحالات الفائقة بطريقة فعالة، وهو ما يتطلب تطويراً مستمراً للخوارزميات الكمومية وتصحيح الأخطاء.
وعام 1998، أجرت شركة “آي بي إم” وجامعة ستانفورد أول حساب كمومي تجريبي، حيث قام فريق البحث بتطبيق خوارزمية كمومية ثنائية البت للتمييز بين فئتين من الحالات الكمومية، وباستخدام تقنية الرنين المغناطيسي النووي “إن إم آر” (NMR).
تطوير البتات الكمومية
بدأ الباحثون في تجربة أنظمة مختلفة لإنشاء الكيوبتات في التسعينيات. ومع تحسن الفهم والتحكم في الكيوبتات الفردية، تحولت الجهود نحو زيادة عدد الكيوبتات لإجراء حسابات أكثر تعقيداً، وبدأت شركات مثل “آي بي إم” وغوغل و”دي-وايف” (D-Wave) في بناء أنظمة كمومية أكثر تطوراً.
ومن بين هذه التطورات، كان استخدام الرنين المغناطيسي النووي للحوسبة الكمومية أواخر التسعينيات بمثابة علامة فارقة تجريبية مهمة في تحويل مفاهيم الحوسبة الكمومية إلى واقع عملي.
وفي أكتوبر/تشرين الأول 2019، أعلنت غوغل عن أن حاسوبها الكمومي التجريبي الذي يعمل بوحدة معالجة مؤلفة من 53 كيوبتا أجرى حساباً في فترة تزيد على 3 دقائق بقليل، وكان يتطلب من أسرع حاسوب عملاق في العالم نحو 10 آلاف عام لإنجازه، لكن “آي بي إم” شككت في هذه النتيجة.
وتستثمر غوغل و”آي بي إم” ومايكروسوفت وغيرها من الشركات العملاقة مبالغ طائلة في تكنولوجيا الحوسبة الكمومية. فقبيل نهاية عام 2023 أعلنت “آي بي إم” عن إطلاقها رقاقة كمومية بسعة ألف كيوبت، وأعلنت عن نيتها لتطوير رقاقة كمومية بسعة 100 ألف كيوبت خلال السنوات العشر القادمة. وليست الصين بعيدة عن المنافسة في هذا المجال، إذ طور علماؤها حديثاً رقاقة حوسبة كمومية بسعة 504 كيوبتات سيتم توفيرها للباحثين في جميع أنحاء العالم عبر منصة سحابية جديدة للحوسبة الكمومية.
الكيوبتات المادية والكيوبتات المنطقية
الكيوبتات المادية (physical qubits) هي الوحدات الكمومية الفعلية في الحوسبة الكمومية، وتتسم بعدم الاستقرار، ومعرضة للأخطاء بسبب التشويش والتداخل.
والكيوبتات المنطقية (logical qubits) هي كيوبتات يتم إنشاؤها عن طريق ترميز مجموعة من الكيوبتات المادية بهدف التخلص من الأخطاء وجعل العمليات الحسابية أكثر موثوقية.
ويعتمد عدد الكيوبتات المادية المطلوبة لإنشاء كيوبت منطقي واحد على طريقة تصحيح الخطأ الكمومي المستخدمة وجودة الحواسيب الكمومية، ويتراوح العدد حالياً بين 100 و1000 كيوبت مادي، وتجرى تجارب عديدة لتخفيض العدد المطلوب.
وفي أبريل/نيسان 2024، أعلنت شركة مايكروسوفت وشركة الحوسبة الكمومية كوانتينيوم (Quantinuum) أنهما تمكنتا من إنشاء 4 كيوبتات منطقية من 30 كيوبتا ماديا فقط، وأجرتا 14 ألف تجربة دون اكتشاف خطأ واحد، ويعتبر هذا اختراقاً تقنياً كبيراُ فيما لو نجحت الشركتان في توظيفه لإنتاج حواسيب كمومية تجارية بسعة 100 كيوبت منطقي على الأقل.
وتخطط شركة “آي بي إم” لإنشاء 12 كيوبتا منطقيا من 244 كيوبتا ماديا، بحلول العام 2026. وأجرت غوغل تجارب عديدة لصنع كيوبت منطقي واحد من أعداد مختلفة من كيوبتات مادية، وأثبتت أن كيوبت منطقي مكون من 105 كيوبتات مادية قمع الأخطاء بشكل أكثر فعالية من كيوبت منطقي مكون من 72 كيوبتا ماديا مما يؤكد أن وضع أعداد متزايدة من كيوبتات مادية معاً في كيوبت منطقي واحد يمكنه الحد من الأخطاء.
وقبيل نهاية عام 2023، تم تحقيق أعلى عدد من الكيوبتات المنطقية في حاسوب كمومي، بلغ 48 كيوبتاً منطقياً وذلك في تجارب تعاونت فيها جامعة هارفارد، وشركة كيوإيرا كمبيوتينغ (QuEra Computing) ومعهد “إم آي تي” (MIT) والمعهد الوطني الأميركي للمعايير (American National Standards Institute) مما سمح بتنفيذ حسابات كمومية أكثر استقراراً وموثوقية.
ويُعد هذا التقدم خطوة مهمة نحو تطوير حواسيب كمومية قابلة للتوسع ومعالجة الأخطاء بشكل فعّال، وهي ضرورية للتطبيقات الكمومية الكبيرة والعملية.
حد المحاكاة
تحاكي سرعات الحواسيب العملاقة التقليدية حالياً ما يعادل 50 كيوبتا منطقيا في الحواسيب الكمومية، ولهذا ينصب الهدف اليوم على تطوير حواسيب كمومية بسعة 100 كيوبت منطقي (نحو 10 آلاف كيوبت مادي بالتقنيات الحالية) وبذلك تدخل الحوسبة عصراً جديداً حيث تتجاوز الحواسيب الكمومية، القدرات الحسابية للحواسيب العملاقة التقليدية، وتنتقل من التجارب النظرية أو الصغيرة إلى التطبيقات العملية المؤثرة.
وتخطط شركة كيوإيرا كمبيوتينغ لإطلاق العديد من الحواسيب الكمومية في السنوات القادمة، بدءاً بحاسوب يحتوي على 30 كيوبتا منطقيا من 3 آلاف كيوبت مادي عام 2025. وحاسوب يحتوي على 100 كيوبت منطقي من 10 آلاف كيوبت مادي عام 2026 تتجاوز قدرته الحواسيب العملاقة اليوم.
فوائد الحوسبة الكمومية
لا يتم تصميم الحواسيب الكمومية لتحل محل الحواسيب التقليدية، بل لتكميلها، ومعالجة المسائل التي تتطلب سرعات فائقة لا تستطيع الحوسبة التقليدية إنجازها، ويتوقع أن تمثل هذه الحواسيب ثورة واسعة النطاق في مجال تطوير الأدوية، واستكشاف الطاقة، والتحليل المالي، والتنبؤ بالطقس، كما ستسهم في تسريع تطوير الذكاء الاصطناعي التوليدي كونه يتطلب قدرات فائقة لتحليل كميات هائلة من المعلومات، وهو ما تتفوق فيه الحواسيب الكمومية.
التهديد الذي تمثله الحوسبة الكمومية
تحتاج الحوسبة التقليدية إلى آلاف السنين لفك التشفير المستخدم حالياً والضروري لأمن شبكة الإنترنت، بينما لا تحتاج الحوسبة الكمومية المتقدمة لأكثر من بضعة ثوان أو دقائق لعمل ذلك، وهذا يمثل خطورة بالغة على كافة الأعمال التجارية وخصوصية الأفراد عبر الإنترنت، لكن فك شيفرة RSA-2048 يتطلب 4 آلاف كيوبت منطقي أي نحو 400 ألف كيوبت مادي بالتقنيات الحالية، وهو أمر غير متوفر اليوم، لكن يحتمل الوصول إليه خلال بضعة سنوات.
ويعمل المعهد الوطني الأميركي للمعايير والتكنولوجيا، منذ عام 2016، على تطوير خوارزميات تشفير تناسب مرحلة الحوسبة الكمومية، وتم وضع مسودة أولية للمعايير المطلوبة حديثاً، ومن المتوقع أن يدمج مزودو خدمات الإنترنت هذه الخوارزميات في أنظمتهم مستقبلاً.
الشتاء الكمومي
على الرغم من التقدم الملموس، لا تزال الحوسبة الكمومية تواجه تحديات تقنية كبيرة، مثل الاستقرار الكمومي والأخطاء الناتجة عن التشويش الكمومي. تتطلب معالجة هذه التحديات تطوير خوارزميات جديدة وبناء حواسيب كمومية أكثر استقراراً.
وهذا ما دعى بعض الخبراء للتحذير من شتاء كمومي محتمل، أي أن يدفع الإخفاق في إيجاد حلول جذرية لهذه المشكلات، إلى تضاؤل الاهتمام بالحوسبة الكمومية لعدد من السنوات، بل يعتقد ميخائيل دياكونوف عالم الحاسوب الروسي أننا قد لا ننجح أبداً في تطوير حاسوب كمومي عملي، فكتب عام 2019 مقالاً افتتاحياً أعلن فيه أن مستقبل الحوسبة الكمومية أصبح في طريق مسدود، وقال “لن يتغلب العلماء أبداً على مشاكل الضوضاء وقابلية التوسع والكفاءة اللازمة لمنح الحواسيب الكمومية ميزة مفيدة على الحواسيب التقليدية”.
ولا تعكس الآراء المتشائمة السابقة واقع أبحاث الحوسبة الكمومية المتطورة، إذ تعمل حالياً عشرات الفرق في جميع أنحاء العالم على إيجاد حلول للمشكلات المرتبطة بتطوير الحواسيب الكمومية المفيدة.