على مدار العقود الماضية، هيمن «وادي السيليكون» في ولاية كاليفورنيا الأمريكية على مشهد الابتكار التكنولوجي العالمي، إذ عُدّ أعظم مركز على كوكب الأرض لنشوء الشركات التكنولوجية العملاقة وأرضاً خصبة لتكاثر شركات «يونيكورن» المليارية، واليوم، تتقدم دبي من قلب الشرق الأوسط لتنافس هذه الهيمنة التكنولوجية ليس عن طريق محاكاة تجربة الوادي أو أي مركز آخر، وإنما عبر رؤية حكومية استشرافية للمستقبل تسعى إلى بلورة نموذج نجاحها الخاص.

حاولت «البيان» الإجابة عن سؤال: هل ستكون دبي هي «سيليكون فالي» القادم؟ حيث التقت عدداً من أكبر مسؤولي ومديري الشركات الكبرى في قطاع التكنولوجيا في العالم، والذين أكدوا أنه رغم حداثة تجربة دبي نسبياً مقارنة بتجربة وادي السيليكون، إلا أن الإمارة تعد تجربة فريدة جداً تسعى إلى تطوير نموذجها الخاص لتكون في مقدمة المدن التكنولوجية حول العالم والأسرع نمواً، مشيرين إلى أن دبي ستشهد خلال السنوات العشر القادمة مزيداً من بروز شركات «يونيكورن» وشركات التكنولوجيا العملاقة المليارية ذات الصدى والهيمنة العالمية.

وقال المسؤولون، إن دبي اليوم في وضع مثالي للمنافسة مع المراكز التكنولوجية العالمية من وادي السيليكون إلى الهند والصين والسويد ولندن ونيويورك وسنغافورة، وذلك عبر مساعدة الشركات الناشئة على الانطلاق والنمو وجذب صناديق الاستثمار العالمية وتبني وتطوير تطبيقات الذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا المعلومات، وجذب الكفاءات والكوادر والمواهب، والمبادرات الحكومية الخلاقة في مجال التعليم، وكل ذلك يأتي ضمن مناخ وبيئة متقدمة تدعم الاستثمار والاستقرار ومستوى المعيشة والرفاه العالي.

 

دبي هي المستقبل

قال الدكتور علاء الشيمي – المدير التنفيذي والرئيس الأول مجموعة المشاريع التجارية في منطقة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى في شركة «هواوي»، إنه من الممكن جداً أن تكون دبي هي سيلكون فالي الجديدة، ويبدو أن الرؤية الحكومية واضحة جداً، والخطوات التي اتخذتها دبي في تنفيذ هذه الرؤية أثارت إعجاب العالم كله، حيث نرى عدد الشركات الناشئة التي دعيت إلى نسخة معرض جيتكس الأخيرة ويبدو بأنهم يسعون إلى تمهيد الطريق لجذب هذه الشركات إلى الإمارة وتأسس مقر دائم لها.

وأضاف الشيمي إن دبي لا تخطط لتكون مركزاً لجميع تطبيقات الذكاء الاصطناعي فقط، وإنما مركزاً للثورة الصناعية الرابعة على مستوى العالم، رغم المنافسة الطبيعية من مدن أخرى حول العالم، ولكن نعتقد أن دبي بالفعل هي المستقبل.

وذكر الشيمي أنه عندما نتكلم عن سيليكون فالي، فنحن نتحدث عن مركز قديم تأسس منذ عقود، أما دبي فتعتبر حديثة نسيباً، وعندما نتحدث عن الهند فهناك عدد السكان الضخم جداً وهم يتنافسون على المركز الأولى لأكبر عدد من مطوري «السوفت وير» والتطبيقات في العالم، ولكن ليس هنا المقارنة بالنسبة لي، وإنما القدرة على استقطاب الشركات التكنولوجية سواء كانت هندية أو أمريكية أو أوروبية أو عربية، وأن توفر لها المناخ والبنية التحتية والنظم المناسبة لتتطور وتنتج وتكبر، فضلاً عن بقية النظام البيئي المكمل لهذه الصناعات.

وأشار الشيمي إلى أن الفكرة تتركز حول وجود استراتيجية متطورة وقيادة قادرة على تنفيذها، والواضح أن دبي تملك كل ذلك، واتخذت كل الخطوات المناسبة لجذب الشركات الناشئة، والتي يبدو أنها تفضل أن تكون شركات تكنولوجيا ناشئة في دبي أو إماراتية مقابل أن تكون شركات ناشئة أمريكية أو هندية.

 

إلى ماذا تحتاج دبي؟

وقال الشيمي إن العامل الرئيس والميزة الأساسية في سيليكون فالي هي المستثمرون ورأس المال المخاطر، حيث هناك شركات دورها فقط أن تتعامل مع المستمرين، الذين يبادرون وقد يستثمرون في 20 شركة، يفشل منها 19 وتنجح واحدة، ولكن هذا النجاح يعوضهم عن الاستثمار وبمعدل أرباح مرتفع، وبالتالي فإن وجود المستثمر ونظام يشجع على الاستثمار وجذب هذا النوع من المستثمرين الجرئيين والمخاطرين إلى دبي، سيكون أكبر عامل داعم للشركات الناشئة لتنمو وتنجح وتصل إلى العالمية.

 

الشركات الكبرى

وأفاد الشيمي بأن الشركات الكبرى مثل «غوغل» و«ميتا» وغيرها احتاجت من 20 إلى 30 سنة عملياً حتى وصلت إلى هذا الحجم العملاق، وبالتالي تاريخياً الشركات الناشئة تحتاج إلى وقت للنمو والتوسع، واليوم نحن نتعامل مع شركات في دبي تقدم حلول تنافس الحلول العالمية تباع بملايين الدولارات، ولكنها تقدم خدماتها في الإمارة بآلاف الدولارات، وأعتقد أنه خلال 10 إلى 15 سنة لن تقارن الشركات الناشئة أو العملاقة مع سيلكون فالي إنما مع الشركات في دبي.

وأكد الشيمي أن دبي اليوم مدينة جاذبة للخبرات ورأس المال، وهي مدينة عالمية يطمح للانتقال والعيش فيها، وأعتقد أن موهبة تقنية اليوم ستفضل العرض المقدم لها في دبي عن أي مكان آخر في العالم، ويأتي ذلك في ظل طلب على الكفاءات والخبرات التقنية وخاصة في مجالات الثروة الصناعية الرابعة وتطبيقات الذكاء الاصطناعي يفوق العرض، وبالتالي تحتاج البرامج التعليمية في الجامعات أن تواكب هذا الأمر خلال السنوات العشر الماضية لإغلاق فجوة العرض.

 

نموذج خاص

بدوره، قال شكري عيد، المدير العام لشركة IBM في منطقة الخليج والمشرق العربي وباكستان، «أعمل منذ 30 سنة في القطاع التكنولوجي، وأعتقد أنه ليس السؤال الذي يجب أن نركز عليه، حول ما إذا ستكون دبي هي سيلكون فالي المستقبل أو ما الذي تحتاجه دبي لتكون مثله، فسيليكون فالي نشأ على مدار 200 سنة وهو مختلف عن نشأة دبي، وليس بالضرورة أن نقلد نموذجاً مثل سيليكون فالي، فدبي لديها نموذج خاص بها».

وأضاف عيد «نموذج دبي مختلط أكثر، ولديها نقاط قوة متطورة أكثر، مع الأخذ بعين الاعتبار نقاط قوة رئيسة لدى سيليكون فالي تتعلق بالجامعات والأبحاث وخيارات التمويل، ودبي بالمقابل عندها نقاط رئيسة تركز عليها، فالحكومة لديها رؤية ممتازة قادرة على استغلال نقاط القوة باقتصاد الإمارات وتركيبته السكانية ووضعها الجغرافي، وأعتقد أن دبي لديها استراتيجية واضحة جداً، ولديها نموذج يحتذى خاص بها ولا تسعى إلى تقليد ونسخ تجارب أخرى».

وتابع عيد «من نقاط القوة الموجودة هنا هي قدرتهم على تبني تكنولوجيا المعلومات بطريقة أسرع بكثير من دول أوروبا أو أمريكا الشمالية، وهنا منبع القوة، هي أن الحكومة لديها درجة إبداع مخيف واستشراف للمستقبل ورؤية لمدة خمسين سنة، وهذا الأمر غير موجود في أماكن أخرى، وهذا الأمر يعتبر محفزاً كبيراً لتطوير التكنولوجيا، فاليوم عندما نستخدم الخدمات الحكومية في الإمارات نرى بأنها متطورة بكثير مقارنة بدول أخرى، وهنا يظهر تأثير الحكومة الكبير والدور الذي تلعبه في وضع سياسات متعلقة في تبني تقنيات البلوك تشين والذكاء الاصطناعي والحلول السحابية».

 

التمويل والشركات العملاقة

وأفاد عيد، «لا أعتقد أن هناك نقصاً في التمويل ورأس المال الاستثماري المخصص للشركات الناشئة، والواضح أن لدبي تركيزاً كبيراً على دعم الشركات الناشئة ورواد الأعمال وهذا الأمر يرتبط بطبيعة الحال بحجم الدولة وعدد السكان، ومن الواضح أن دبي والمنطقة سيكون لديهم دور كبير في الاقتصاد العالمي مستقبلاً».

وأوضح عيد، «نعم شهدت منطقة سيليكون فالي نشوء عدد كبير من الشركات العلاقة، وأعتقد أن دبي لا تسعى لمحاكاة هذا النموذج إنما تركز على جوانب أخرى، فمثلاً الإمارات اليوم لديها واحد من أكثر موديلات الذكاء الاصطناعي المتطورة مثل «فالكون»، وبالتالي أنت لا تحتاج إلى شركة قيمتها 100 مليار لنقول إننا نجحنا، دبي لديها مسار مختلف ونموذج مختلف، وهذا ما يحدث بالفعل على أرض الواقع».

 

رأس المال الاستثماري

من جهته، قال فادي فرعون رئيس «إريكسون» الشرق الأوسط وإفريقيا، «من قال إن دبي ليست كوادي سيليكون؟ لكنني أعتقد أنه من المثير أكثر رؤية الشركات الناشئة تزدهر وتنمو في هذه المنطقة وخاصة في دبي، التي تستضيف معرض جيتكس وهو من أبرز الفعاليات لشركات التكنولوجيا والشركات الناشئة، كما يمكننا رؤية استحقاق لرأس المال من حيث رأس المال الاستثماري في دول مجلس التعاون الخليجي والعالم العربي، وهذا مشابه للمشهد في وادي سيليكون، وفي أوروبا أيضاً، حيث يقع المقر الرئيس لشركة إريكسون في السويد، كما يُشار إلى السويد أحياناً باسم وادي السيليكون في قارة أوروبا، ليس بسبب عدد الشركات الناشئة الكبير، ولكن بسبب القدرة على الوصول إلى رأس المال، وهذا ما نراه هنا الآن، لذلك فإن ما يحدث هنا مثير وإيجابي للغاية، وأعتقد أن المنطقة ككل تتخذ خطوات صحيحة».

 

المنصات الإلكترونية

وأضاف فرعون «أعتقد أنه يمكنك العثور على شركات كبيرة جداً لا تعتمد بالضرورة على وجودها هنا كشركة قائمة، لكنها تعتمد على استخدام تطبيقاتها الذكية، لنأخذ شركة أوبر على سبيل المثال، إنها شركة ضخمة أيضاً، ولكنها في الأساس منصة إلكترونية، وإذا أردت التعرف على ما تقوم به الشركات هنا، انظر إلى «مجموعة إي آند»، على سبيل المثال، لديهم استراتيجية واضحة في توظيف التكنولوجيا للاستثمار في تطبيقات ضخمة، يطلقون عليها اسم التطبيق الفائق (super app)، وهذا مثال رائع على قيام العديد من الشركات بذلك والتوجه نحو المنصة الإلكترونية، وأعتقد أننا بحاجة إلى منحها بعض الوقت».

وأفاد فرعون «المنطقة تستحوذ على اهتمام الكثير من الناس حول العالم، حيث تخطف أنظارهم المشاريع التي يتم إنشاؤها، والمواهب التي تنمو وتتطور، وخلال جولتي في معرض جيتكس رأيت أشخاصاً أعرفهم يعيشون في بلدان أخرى وينتقلون للعيش في هذه المنطقة، وهذا دليل واضح على أننا قادرون على استقطاب أفضل المواهب، وبالنسبة لشركة إريكسون، فلدينا نوع خاص من العمليات حيث نجمع أفكاراً جديدة ومبتكرة وقد حصلنا بالفعل على أفكار مبتكرة للغاية جاءت من فريق عمل إريكسون هنا».

 

الطريق الصحيح

وقال محمد أمين، النائب الأول لرئيس شركة «ديل تكنولوجيز» في منطقة أوروبا الوسطى والشرقية والشرق الأوسط وتركيا وأفريقيا، «دبي كانت وما زالت على الطريق الصحيح لتبقى من المدن الأولى في العالم، وهذا هو الأمر المهم، أن تصل دبي في 2030 لتكون واحدة من أفضل ثلاث مدن في العالم، واليوم مع تبني الإمارة خيارات التحول الرقمي والمدن الذكية والرفاهية العالية للسكان، والنمو الاقتصادي المستدام، سيكون لدبي فرص كبيرة في تطوير الاقتصاد الرقمي أكثر من غيرها وهذا أمر أهم من وادي السيليكون».

وتابع أمين «إن الإحصاءات تقول إن إسهام الاقتصاد الرقمي في اقتصاد الإمارات يبلغ 9.5% من حجم الاقتصاد وتسعى الدولة ليكون 20% من الاقتصاد، وعند تحقيق هذا الإنجاز سيكون بمثابة قفزة كبيرة لدبي والإمارات»، مشيراً إلى أن دبي شهدت نمو وتطور عدد من الشركات الكبيرة خلال السنوات الماضية واليوم نراها مشاركة في معرض جيتكس للتكنولوجيا الذي يعتبر الأكبر في العالم، ولكن يجب الإشارة إلى أن حجم الاقتصاد الأمريكي أكبر من حجم الاقتصادات في الشرق الأوسط، وهذه النقطة يجب أخذها في الاعتبار عند المقارنة بين المراكز والمدن العالمية.

وأشار أمين إلى أن الواضح اليوم أن كل الناس ترغب أن تعيش في دبي، والإمارة أطلقت على مدار السنوات الماضية العديد من المبادرات لجذب الشركات الناشئة والكفاءات والكوادر والمواهب، ولا سيما أن الإمارات أول بلد في المنطقة يطلق فيزا خاصة بأصحاب المواهب، فضلاً عن الإقامة الذهبية ولذلك نلاحظ أن عدد السكان في ارتفاع وهذا بسبب الرغبة الكبيرة لدى الكثيرين للانتقال والاستقرار في دبي.

 

أكثر المستثمرين ذكاء

بالمقابل، قال جوناثان أدلستين المفوض السابق في لجنة الاتصالات الفيدرالية (FCC) في الولايات المتحدة الأمريكية، المدير العام رئيس قسم السياسة العالمية والاستثمار العام في «ديجيتال بريدج» Digital Bridge، إن دبي تحتاج إلى المزيد من الخطوات لتصبح مثل وادي السيليكون، أعتقد أن لدينا بنية تحتية، وأعتقد أنها بحاجة إلى المزيد من الأموال أو المزيد من رأس المال الاستثماري للاستثمار في الشركات الجديدة.

وأضاف أدلستين «أحد العناصر الحاسمة في وادي السيليكون هو تركيز المواهب الرقمية، كما أنهم يملكون جامعة ستانفورد، التي بدأ الأمر منها حيث دعت المواهب من جميع أنحاء الولايات المتحدة إلى وادي السيليكون، حيث قدموا للإبداع والابتكار وتأسيس وقيادة الشركات نحو النجاح، لقد بدأ الأمر مع شركة Hewlett-Packard، ثم Google ثم Facebook، والتي أصبحت Meta، لذلك أعتقد أنه من أجل تحفيز هذا النوع من البيئة، تحتاج الجامعات هنا إلى خلق المواهب وتدريب الكتلة الحرجة من الناس للقيام بذلك».

وتابع «لديك البنية التحتية الرقمية التي تحتاج إلى استثمار مستمر، ولديك أيضاً مستثمرون حكماء يفكرون في الشركات الناشئة التي تبدأ صغيرة ولكنها يمكن أن تصبح كبيرة جداً، كما لديهم رأس مال كافٍ للاستثمار فيها، وهي ميزة كبيرة كانت لدينا في وادي السيليكون، هناك شيء يسمى طريق ساند هيل، حيث كانت أكبر شركات رأس المال الاستثماري تستثمر في شركات مثل Netflix وGoogle وFacebook في الأيام الأولى، وهنا في دبي لديك الكثير من العناصر المهمة، أنت بحاجة إلى الناس وبالطبع، أنت بحاجة إلى مزيد من التدريب أيضاً».

وذكر أدلستين «لدينا شركات عالمية بدأت في الولايات المتحدة ولكنها أصبحت عالمية بسرعة، ونحن نعلم أن الولايات المتحدة لديها سوق أولي أكبر لأن لدينا 300 مليون شخص ولديك 10 أو 11 مليوناً هنا، ولذلك قد لا تكون المقارنة مناسبة، ولكن يمكن لأي شركة صغيرة أن تنمو بسرعة وتصبح عالمية، والمفتاح هو الابتكار، هو العثور على الشركات الناشئة الصغيرة المبتكرة كما في جيتكس في نسخته الأخيرة، حيث هناك معرض جديد بالكامل للشركات الناشئة، مدعوم برأس المال الاستثماري».

وأشار أدلستين إلى أن «الإمارات لديها بعض من أكثر المستثمرين ذكاءً في العالم، لقد وجدنا مديرين ومحللين استثماريين بارعين يعرفون حقاً كيفية تحليل ما هو منطقي، إنهم بحاجة إلى دعم هذه الشركات الصغيرة ومساعدتها على أن تصبح عالمية، تحتاج الحكومة إلى التأكد من أن ذكاء الناس يتم حصاده بشكل صحيح من خلال الفرص التعليمية، هناك بعض الجامعات الرائعة هنا في دبي التي تقوم بالتدريب، أعتقد أن لديك العناصر المناسبة هنا للانطلاق نحو العالمية مع بعض هذه الشركات الناشئة، هذه هي الطريقة التي سأرى بها الأمر وكيف يمكن أن تكون دبي مثل وادي السيليكون».

شاركها.
اترك تعليقاً

2024 © السعودية خبر. جميع حقوق النشر محفوظة.