تمر اليوم، السابع من أكتوبر، ذكرى وفاة المغفور له، الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم «والد دبي»، رحمه الله، صاحب الرؤية الثاقبة، التي وقفت وراء إرساء أركان نموذج دبي الفريد.

والإنسان الذي أجرى أعراف العمل والإنجاز قيمةً أساسيةً، والعضيد الذي أنجز مع أخيه المغفور له، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، المأثرة الإماراتية الكبرى، المتمثلة في تأسيس وبناء دولة الاتحاد، ذلك الإرث الكبير الذي تركاه للأجيال المتعاقبة من بعدهما.

سمات وأدوار

إن الحديث عن المغفور له، يطول ويتشعب بتعدد جوانب شخصيته الثرية، والأدوار الكبيرة التي اضطلع بها في تاريخ الدولة، والأثر الطيب الذي لا يمحى، ولا يزال إلى اليوم يحفز الإماراتيين على ريادة المستقبل، وبنائه، وصنعه.

ولا يزال ذكره يجري على الألسن، إعجاباً وتقديراً، كلما وفد إنسان إلى الدولة، وكلما خبر امرؤ فرادة دبي، وتعرف إلى طموحاتها غير المحدودة، التي تفتح أمام الإنسانية آفاقاً لحسن إدارة الموارد، وتوظيف الإمكانات، وملاحقة الطموحات التي تحقق الخيال وتتفوق على المستحيل.

ومما لا شك فيه، أن سيرة المغفور له، تمثل، بحد ذاتها، ثروة وطنية إنسانية كبيرة، لما فيها من عبر، وبما تقدمه من دروس، وما منحته للأجيال الجديدة من تجارب وخبرات، لا تنفد ولا تستنفد قيمتها وأهميتها.

في شخص المغفور له، رحمه الله، تجسدت القيم الأصيلة للإنسان الإماراتي، الذي يرى في التحديات فرصاً ثمينة، فخط على أرض الواقع سيرة وطن متحد بآماله وطموحاته، مزدهر بقيادته، وفي شخصه تجسدت القيم الإنسانية، ومسؤولية القيادة، وعزيمة البناء التي لا تنثني، وإرادة الإنسان المتنوّر، التي تنشر الخير، وتعمم المعرفة، وتبني الخبرات، وتعزز قيم التعايش، وعلاقات حسن الجوار وتوثيق الصلات.

كلمات من ذهب

تختزل سيرته، رحمه الله، مدرسة في القيادة، عرفها القاصي والداني، عبر نموذج دبي الحديثة، والفكر والرؤية اللذين يقودان مسيرتها، وقد عبّر عن هذه المدرسة، وأوجز أهم قواعدها، صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي «رعاه الله»، في كتابه «قصتي: خمسون قصة في خمسين عاماً»، الذي خط بقلمه كلمات من ذهب حول «والد دبي»، و«المعلم الأول».

وبذا كان صاحب السمو خير من يعبر عن تجربة المغفور له، الذي كان «مدرسة، وكان معلماً، وكان حاكماً، وكان أباً للجميع. يبدأ يومه مع صلاة الفجر».

صورة القائد

يصف صاحب السمو «والد دبي»، بقلم يثمن ما تراكم في مسيرته من خبرة وحنكة، تجسدان معاني القيادة، ويصفه إنساناً مشغولاً بمسؤولياته، لا يتهاون في التصدي لواجباته، وهو على ذلك صاحب ابتسامة لا تخبو، وهيئة تحيطها الجدية بهالة من الهيبة، فيقول: «كان فارع الطول، ترتسم التجاعيد على ملامحه لكثرة التبسم، أما الخطوط المحيطة بعينيه، فأضفت هيبة وجدية على وجهه. كان صوته هادئاً ودافئاً وقريباً من النفس، وعلى الرغم من ذلك، كان الصمت يخيم على الجميع عندما يبدأ الكلام».

إنها صورة لقائد، صانع للتاريخ، بانٍ للأوطان، مربٍ للأجيال، صاحب مدرسة خاصة في الحكم والقيادة، يضع الإدارة في المقام الأول، ويصدرها بحسن التدبير، واستثمار الإمكانات خير استثمار، ويواجه التحديات بأفكار جديدة، وأساليب عمل مبتكرة.

بلى، لقد كانت تجربة المغفور له الطويلة في النهوض بدبي، ورسم مسارات تطورها ونمائها، جاءت ملهمة، تحفز الإرادات، وتستثير العقول. ويقول صاحب السمو إنها: «لامست قلوب الجميع، وأن بصمته التي تركها في كل حجر وزاوية في دبي، التي أشرف على بنائها بنفسه، ستبقى في ذاكرة بلده وشعبه إلى الأبد».

مدرسة في القيادة

يقول صاحب السمو في قصة «ثلاثة دروس مع بداية حكم راشد»، الواردة في الفصل الثاني عشر من كتاب «قصتي: خمسون قصة في خمسين عاماً»: «كل يوم في حكم الشيخ راشد كان مدرسة»، ويورد «ثلاث نصائح من حكيم ومعلم، أصبحت منهج حكم لي، وفلسفة حكم مع شعبي».

ويضيف صاحب السمو: «أذكر أنه من القرارات الأولى التي اتخذها الشيخ راشد بعد توليه مسؤولية الحكم، تأسيس مجالس للبلدية والتجار، وغيرهم من الأشخاص الموهوبين في مجتمعنا، وعندما سألته عن سبب دعوته إلى كل هذه الوجوه، نظر إليّ بكل جدية وقال

الإنسان لا يتوقف عن التعلم، نريد منهم أن يخبرونا كيف يريدون أن نبني دبي، ونريدهم أن يعلموك كيف تكون قائداً»، فـ «الإنسان لا يولد كاملاً، هو بحاجة إلى عقل غيره لاستكمال عقله ورأيه، وهو بحاجة لتعلم مستمر، بحاجة إلى مشورة من حوله أيضاً، كبرت وتعلَمتُ بأن الرسول صلى الله عليه وسلم، كان يستشير أصحابه، وهو المعصوم عن الخطأ».

«المعرفة والتعلم»، هاتان الكلمتان كانتا عنوان الدرس الأول.

ويتابع صاحب السمو، تعقيباً على هذا الدرس: «كبرت ورأيت حكاماً وحكومات عربية، لم يهتموا بالاستماع لرأي شعوبهم، بشأن الكيفية التي يريدون بها أن تُبنى دولهم. كبرت وشاهدت قادة كباراً لدول عظيمة، كان خطأهم التاريخي الأكبر، الذي أطاح بهم، هو مستشاروهم المنافقون».

وينتقل صاحب السمو للحديث عن الدرس الثاني في القيادة، الذي تعلمه في مدرسة المغفور له «والد دبي»، فيقول: «في يوم آخر من أيام الشيخ راشد، تعلمت أيضاً شيئاً عظيماً، ما زلت أطبقه حتى اليوم، كان الشيخ راشد يحدث أحد الرجال في المجلس، ويقول له: «أعتقد أنك نشيط ولديك قدرات قيادية، هل تستطيع إطلاق المشروع الفلاني، ومتابعته حتى النهاية؟».

كنت أبدي تبرمي لاحقاً وأهمس له: «لماذا قلت لفلان إنه قائد.. هو قليل الكفاءة»… كان رده بأن من أهم صفات الحاكم الناجح، أن يحيط نفسه بقادة آخرين، ونحن نبحث عنهم دائماً، ولكن عندما لا نجدهم، نصنع نحن القادة، نعطيهم المسؤولية، ونشجعهم حتى يصبحوا قادة حقيقيين».

على القائد أن يصنع قادة. هذا عنوان الدرس الثاني.

وينقلنا صاحب السمو إلى الدرس الثالث في مدرسة المغفور له، راشد بن سعيد، فيقول: «الاقتصاد محرك السياسة»، ويضيف متحدثاً عن المغفور له الوالد «المعلم الأول»: «سألته من هم القادة الحقيقيون في العالم؟ أجاب: القادة الحقيقيون اليوم ليسوا كالماضي، لقد تغير العالم. القادة الحقيقيون هم العمالقة الصامتون الذين يمتلكون الأموال، وليس الساسة الذين يصدرون الكثير من الضوضاء.

هذه الإجابة ما زالت تذهلني حتى اليوم، إن الاقتصاد دائماً هو ما يحرك السياسة. الكثير من المحللين اليوم يقولون قبل تحليل أي ظاهرة سياسية: ابحث عن المال!

حتى في الدول الغربية والديمقراطيات الكبرى، المال والاقتصاد هما اللذان يحركان السياسة. أرى دولة كبيرة، كالصين مثلاً، تتحدى العالم كله بقوة اقتصادها، وتكسب الدول والولاءات والقوة الجيوسياسية، بسبب وفرة أموالها وقوة اقتصادها. الدولة العظمى اليوم، الولايات المتحدة الأمريكية، هي الأولى عالمياً، ليس بسبب قوتها العسكرية فقط، بل بسبب قوتها الاقتصادية.

تختصر هذه الإجابة الكثير من فكر دبي وفلسفتها، والكثير الكثير من مواقف الشيخ راشد. كان يفضل دائماً الابتعاد عن ضوضاء السياسة وتشابكاتها، ومعاركها الصفرية، ويقول إنها لم تصنع لنا نحن العرب شيئاً».

ويضيف سموه في الحديث عن «والد دبي»: «كان كل تركيزه وطاقته ووقته منصباً على المشاريع والاقتصاد، وكان يتجنب أي شيء يمكن أن يجر بلادنا إلى مستنقعات السياسة».

محطات الوفاء

تتعدّد محطات تذكّر المغفور له، الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، رحمه الله، وتحفظها ذاكرة نابهة، وقلم فياض بالمشاعر، يلتقط دروس الحكمة والقيادة، فيسجلها سطوراً فياضة بالمعنى، فيكتب صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، في وفاء الفارس، مستحضراً ذكراه، ومستذكراً فضله:

«تعلمت من راشد منذ نعومة أظفاري، بأن القائد هو الشخص الأكثر نشاطاً، والأقدر على تنفيذ المشروعات بكل كفاءة. تعلمت من راشد أن كل درهم في دبي له قيمة كبرى، ولا يتم صرفه إلا في مكانه الصحيح. ثقافة الحكم التي رسّخها راشد بن سعيد، هي ثقافة تقوم على صرف المال بحكمة، والابتعاد عن التبذير الحكومي، أياً كان شكله. أحد أهم أسرار تفوق دبي، هي القيم التي أرساها الشيخ راشد في منظومة الحكم. فعلاً، الحكم الصالح فيه صلاح البلاد والعباد».

أصعب اللحظات

ولا تغيب أصعب اللحظات عن هذه الذكريات. وهي تلك التي ودّعت فيها دبي «والدها» و«بانيها»، المغفور له، الشيخ راشد بن سعيد، الذي أمضى حياته «عملاً ونشاطاً وحركة دائمة، يفاوض ويناقش ويتابع».

ويتذكر صاحب السمو: «في عام 1990، أتم الـ 78 من العمر، ورغم مظاهر الوهن التي بدت عليه، إلا أنه كان حاضر الذهن، قوي الفكر، تغلب على كلامه الحكمة، وعلى نظراته عمق الفكرة. وكان أكثر ما يسعده في أيامه الأخيرة، الجلوس في إحدى شرفات قصر زعبيل، ليطلّ منها على دبي، يرى مدينته الناهضة، التي بناها بعرقه، وهندسها بفكره، وضحى من أجلها بأيامه ولياليه».

وبالساعة واليوم، يحدّد تاريخ رحيل الأب، لأنها لحظة لا تنسى: «في الـ 10 من مساء الأحد، السابع من أكتوبر 1990، أسلم راشد الروح لباريها، ورحل عن الدنيا بهدوء وسلام».

بصمة باقية

رحل راشد بن سعيد بهدوء، بعدما ترك وراءه ورشة عمل وإنجاز لا تهدأ، وطموحات تطاول السماء، ولا تقبل بما دون النجوم، وقيادة تعلي البناء، وتوسع الرؤيا، وتبتكر الجديد، كل يوم وساعة.

لذا، بينما تتذكر دبي «والدها» اليوم، ترنو بنظراتها إلى فارسها الذي تابع المسيرة، وشق لها طرقاً جديدة، ودروباً غير مطروقة، فتطمئن عينها إلى الحاضر والمستقبل، اللذين يخطهما صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم بيراعه، وثاقب فكره.

بلى «بصمة راشد التي تركها في كل حجر وزاوية في دبي، التي أشرف على بنائها بنفسه، ستبقى في ذاكرة بلده وشعبه إلى الأبد».

شاركها.
اترك تعليقاً

2024 © السعودية خبر. جميع حقوق النشر محفوظة.