في مشهد يعكس تصاعد التوتر بين السلطات الروسية وجيل الشباب في الفضاء الرقمي، شهدت مدينة تومسك السيبيرية احتجاجات نادرة على قرار حظر منصة الألعاب الشهيرة روبلوكس. هذا الحظر، الذي وصفه البعض بـ “الستار الحديدي الرقمي”، أثار غضب الملايين من المستخدمين الشباب الذين يعتبرون روبلوكس أكثر من مجرد لعبة، بل فضاءً إبداعيًا واجتماعيًا هامًا. الاحتجاجات الأخيرة ليست مجرد رد فعل على حجب منصة ترفيهية، بل هي جزء من صراع أوسع حول السيادة الرقمية في روسيا، وتأثير ذلك على الحريات الفردية وفرص التطور.

احتجاجات تومسك: رسالة غضب ضد حظر روبلوكس

تجمع العشرات من الشباب والمراهقين في حديقة فلاديمير فيسوتسكي في تومسك، معبرين عن رفضهم لقرار حظر روبلوكس. رفع المتظاهرون لافتات مكتوبة بخط اليد، تحمل شعارات قوية مثل “ارفعوا أيديكم عن روبلوكس” و “الحظر والحجب هو كل ما تستطيعون فعله”. هذا التجمع الاحتجاجي، على الرغم من صغر حجمه مقارنةً بالاحتجاجات الأخرى، يحمل أهمية خاصة كونه يعبر عن رأي جيل الشباب الذي يجد نفسه بشكل متزايد في مواجهة مباشرة مع سياسات الحكومة الرقمية.

الاحتجاج جاء ردًا على قرار هيئة مراقبة الاتصالات الروسية (روسكومنادزور) بحجب المنصة الأمريكية في ديسمبر الجاري. المنصة، التي تحظى بشعبية هائلة بين الأطفال والمراهقين حول العالم، توفر لهم بيئة افتراضية لتصميم الألعاب والتجارب الاجتماعية، مما يجعلها ملاذًا للإبداع والتعبير عن الذات.

دوافع الاحتجاج: أكثر من مجرد لعبة

بالنسبة للعديد من الشباب الروسي، روبلوكس ليست مجرد وسيلة للترفيه، بل هي منصة تعليمية واقتصادية. يتعلم المبرمجون الصغار من خلالها أساسيات البرمجة، ويتمكنون من بيع تصاميمهم وتحقيق دخل. حظر المنصة يعني حرمانهم من هذه الفرص، وعزلهم عن المجتمع التقني العالمي. كما أن الحظر يثير مخاوف بشأن مستقبل الحريات الرقمية في روسيا، وحق الشباب في الوصول إلى المعلومات والتعبير عن آرائهم.

خلفية الصراع: روسيا والإنترنت السيادي

لا يمكن فهم قرار حظر روبلوكس بمعزل عن السياق السياسي الأوسع الذي تشهده روسيا منذ بدء العملية العسكرية في أوكرانيا في فبراير 2022. تسعى موسكو جاهدة لتطبيق مفهوم “الإنترنت السيادي”، وهو نظام يهدف إلى منح الحكومة سيطرة أكبر على الفضاء الإلكتروني داخل البلاد.

هذه السيطرة تُبرر بحجج تتعلق بالأمن القومي ومواجهة “حرب المعلومات” التي تدعي روسيا أن الغرب يخوضها ضدها. وقد اتخذت السلطات الروسية بالفعل خطوات واسعة لحجب منصات عالمية كبرى مثل فيسبوك، إنستغرام، وتويتر (إكس).

تبريرات الحظر: محتوى غير لائق و”مجتمع الميم”

بررت السلطات الروسية حظر روبلوكس بادعاءات تتعلق بوجود “محتوى غير لائق” يؤثر سلبًا على النمو الفكري والأخلاقي للأطفال. وتحديدًا، أشارت إلى وجود مواد تروج لـ “مجتمع الميم” (LGBT)، الذي تصنفه روسيا كحركة متطرفة. كما زعمت السلطات وجود محتوى إرهابي على المنصة.

هذه التبريرات قوبلت بانتقادات واسعة من قبل خبراء التقنية والمدافعين عن حقوق الإنسان، الذين اعتبروها ذريعة لفرض رقابة على الإنترنت وتقييد الحريات الرقمية. شركة روبلوكس نفسها أكدت التزامها ببروتوكولات “السلامة الاستباقية” وتطبيق تدابير وقائية صارمة.

الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية لحظر روبلوكس

يتجاوز تأثير حظر روبلوكس مجرد حرمان الشباب من منصة ترفيهية. فهو يمثل ضربة للاقتصاد الرقمي الناشئ في روسيا، ويحد من فرص تطوير المهارات الرقمية التي تعتبر ضرورية في اقتصاد المستقبل.

بالإضافة إلى ذلك، فإن الحظر يعزز العزلة الثقافية والتكنولوجية لروسيا، ويصعب على الشباب الروسي التواصل مع أقرانهم في جميع أنحاء العالم. هذا العزل يمكن أن يكون له آثار سلبية طويلة الأجل على التنمية الاجتماعية والاقتصادية في البلاد.

قمع المعارضة ومستقبل الحريات الرقمية في روسيا

على الرغم من أن الاحتجاج في تومسك كان مصرحًا به قانونيًا، إلا أن الأجواء كانت مشحونة بالتوتر الأمني. اعتقلت الشرطة شخصين قبل بدء الفعالية بتهمة “عرض رموز متطرفة”، وقامت بالتدقيق في الهويات العسكرية للمشاركين.

هذه الإجراءات القمعية تعكس القلق المتزايد للسلطات الروسية من أي نشاط معارض، حتى لو كان سلميًا وقانونيًا. ومع ذلك، أعلن المنظمون عن نيتهم تنظيم احتجاج آخر يوم 21 ديسمبر، مما يشير إلى وجود حراك شبابي ناشئ يرفض العزلة الرقمية.

الوضع الحالي يثير تساؤلات جدية حول مستقبل الحريات الرقمية في روسيا. فهل ستستمر السلطات في فرض المزيد من القيود على الإنترنت، أم أنها ستستجيب لمطالب الشباب وتسمح لهم بالوصول إلى المعلومات والتعبير عن آرائهم بحرية؟ هذا السؤال سيحدد إلى حد كبير مسار التنمية الاجتماعية والاقتصادية في روسيا في السنوات القادمة. الخطر الحقيقي ليس في حظر تطبيق واحد، بل في ترسيخ ثقافة الرقابة والخوف التي تقوض الإبداع والابتكار.

شاركها.
اترك تعليقاً