مرت أسابيع قليلة بعد سقوط نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد، وشهدت مختلف ساحات سوريا احتفالات حاشدة، من حلب إلى حماة إلى حمص ودمشق، حتى وصلت إلى ميدان الحصري بمدينة 6 أكتوبر.

ففي الحي الواقع غرب العاصمة المصرية القاهرة، علت أصوات الأفراح واحتفل السوريون أخيرا بنجاح ثورتهم بعد 13 عاما قضوها بعيدا عن وطنهم، ليتنفسوا الصعداء ويبدؤوا في التفكير بالعودة إلى بلادهم، فهل يغادرون “أم الدنيا” فعلا؟

“لعشرات المرات سمعت هذا السؤال طوال الأيام الماضية: هل فعلا قررتم أن تسافروا وتتركونا؟”،ن سؤال تردد على مسامع غسان (36 عاما) صاحب محل “الشامي” للمأكولات السورية، من كل زبون يمر به ليشتري طلبه.

في البداية، كان يرد “إن شاء الله”، ثم بعد أن تكرر الاستفهام لعشرات المرات، أصبح يجيب “هل مللتم منا؟ أتريدوننا أن نرحل؟!”، فيأتيه الرد “بل على العكس، نحن نخشى رحيلكم!”.

يقول غسان الذي اشتهر بميدان الجيش في العباسية باسم “الشامي” للجزيرة نت “أعيش في مصر منذ 10 سنوات، وحتى اللحظة لم أفكر في العودة إلى سوريا. الفرحة جميلة بكل تأكيد، لكني أخشى المغامرة بحياة أولادي إن قررت العودة إلى بلادي الآن قبل أن أتعرف على ملامح المرحلة المقبلة”.

“ترند” مصري يرفض رحيل السوريين

شهدت مواقع التواصل الاجتماعي في مصر تفاعلا واسعا مع أنباء عودة السوريين إلى وطنهم، حيث عبّر العديد من المصريين بأسلوب كوميدي وبسيط عن تمسكهم ببقاء السوريين في مصر ورفضهم لفكرة عودتهم إلى سوريا. وقد عكست هذه التفاعلات مشاعر المودة والارتباط العميق بين الشعبين المصري والسوري.

 

على منصة “فيسبوك”، انتشرت منشورات تعبر عن المشاعر المختلطة للمصريين تجاه الأخبار المتداولة حول تحرير سوريا ورحيل بشار الأسد. ورغم مشاركة المصريين فرحة أشقائهم السوريين بهذا التطور، فإن الغالبية عبّرت عن رفضها لفكرة مغادرة السوريين مصر، مشددين على عمق الروابط التي جمعتهم خلال السنوات الماضية. واستخدم المصريون وسم “محدش هيمشي من هنا” للتعبير عن ذلك، حيث حملت منشوراتهم الساخرة رسائل مفعمة بالمحبة والأسى لفكرة وداع السوريين.

تقول فاطمة محمد (34 عاما) إنها جاءت إلى مصر مع زوجها وابنها الكبير وسكنت في الحي الأول بمدينة “السادس من أكتوبر” في أوائل عام 2014، ثم أنجبت ابنتها الثانية هنا على أرض مصر، وتعتبر مصر وطنا ثانيا لها. ورغم احتفال جيرانها من المصريين معها بالتحرير فإنها لم تكن تتوقع حزنهم الشديد حين أخبرتهم بترتيب عودتها لسوريا “انكتب لنا نشوف بلدنا تاني ونحضن أهلنا ويشوفوا عيالنا وولادنا يعرفوا شو يعني الوطن”.

شكرت فاطمة جيرانها وتود لو أنها تشكر كل مصري قابلها في سنوات حياتها في القاهرة لتخبره أن له بيتا في سوريا وأن كل بيوت السوريين ستفتح للمصريين لأبد الدهر كما تقول للجزيرة نت، على مجموعة خاصة بالجالية السورية في القاهرة.

عرضت فاطمة وزوجها أثاث شقتها المؤجرة للبيع بشكل نهائي، وقالت “لو كانت طوبا وترابا وسماء فقط.. سنعود إلى سوريا ونعمرها”.

كما فعلت فاطمة، بدأ كثير من السوريين في مصر اتخاذ خطوات للعودة إلى وطنهم، فامتلأت مجموعات التواصل الاجتماعي بمنشورات تتحدث عن بيع الأثاث والشقق “لدواعي العودة للوطن”. تلك العبارة التي طالما انتظرها السوريون بفارغ الصبر، حتى من بين أصحاب رأس المال والمشروعات التجارية.

من بين هؤلاء، جاءت خطوة مفاجئة من أصحاب سلسلة مطاعم “جيت بوئتك” السورية الشهيرة في مصر. فبعد يومين فقط من إعلان التحرير، أعلنت المجموعة نقل إدارة المطاعم إلى فريق مصري، استعدادًا لعودة ملّاكها السوريين إلى وطنهم.

ردود فعل المصريين جاءت ممزوجة بالدهشة والفكاهة، فتندر بعضهم قائلين “جه التحرير لهم بوئته (بوقته)… واحنا راح وقتنا”، تعليقًا على رحيل المطاعم المحبوبة التي اختفت فجأة. مشهدٌ يؤكد أن “الحروب والثورات لا تأتي بسابق إنذار”، حتى في قرارات العودة والبدايات الجديدة.

منذ بضعة أشهر، استقر اختيار أدهم وإخوته على افتتاح ورشتهم لمشغولات النحاس والفضة في قلب حي الجمالية الشعبي، كان أدهم متخوفا لأنه لا يعلم الكثير عن التعامل مع أهالي الأحياء الشعبية في مصر، خاصة أنه منذ استقراره في مصر منذ سنوات لم يخرج من أحياء 6 أكتوبر ومصر الجديدة ومدينة نصر، لكن بعد شهور من الاستقرار في الجمالية، صار واحدا من أهلها وصاروا أهله. ومع خبر التحرير وانتشار أخبار رجوع السوريين، فوجئ أدهم بتواصل جيرانه معه وسؤالهم المستمر عن عودته إلى سوريا وعدم رغبتهم في حدوث ذلك.

يقول الحاج أشرف (٦٠ عاما) “يعني إيه يرجعوا لبلدهم، وهي مصر مش بلدهم برضه؟ هو يروح زيارة ويرجع لكن خلاص بقى إحنا مش كل شوية نفتح قلبنا لحد ويسيبنا ويمشي”.

الرجل الستيني كان خائفا في البداية من جيرة من سماهم “الأغراب” (الغرباء) لكن مع مرور الوقت لم يجد أفضل منهم أهلا وقربى وجيرة، كما يقول. وأضاف “المصريون دائما بيحتضنوا الغريب، فما بالك لما يبقى أخونا ودمنا ولحمنا، الورشة ستبقى لهم حتى لو سافروا، أنا عارف انهم راجعين تاني”.

اشتراطات جديدة تقررها مصر للسوريين

بينما يستعد العديد من السوريين للعودة إلى وطنهم، أعلنت مفوضية شؤون اللاجئين في مصر أنها لم تتخذ حتى الآن أي إجراءات جماعية لإعادة السوريين، مشيرة إلى أن الوقت لا يزال مبكرًا لاتخاذ مثل هذا القرار. وأكدت المفوضية أنها لا تمنع أي شخص من العودة إلى وطنه على مسؤوليته الشخصية.

وفي وقت سابق، أوضحت مفوضية شؤون اللاجئين بالقاهرة أن عدد اللاجئين السوريين المسجلين لديها يبلغ 148 ألفًا، بينما تشير تقارير المنظمة الدولية للهجرة إلى أن العدد الإجمالي للسوريين المقيمين في مصر يصل إلى 1.5 مليون شخص.

بالتزامن مع هذه التطورات، أعلنت السلطات المصرية عن شروط جديدة لتنظيم دخول السوريين إلى أراضيها بعد تحرير سوريا. من بين هذه الاشتراطات، منع دخول حاملي التأشيرات الأميركية والأوروبية والخليجية دون تصريح مسبق، بالإضافة إلى إلزامية الحصول على تصريح أمني مع التأشيرة. أثارت هذه الإجراءات قلقًا لدى البعض، إذ يرونها مؤشرًا على تغير سياسات التعامل مع السوريين بعد التطورات الأخيرة في سوريا.

ماذا ينتوي السوريون في مصر؟

على مجموعات التواصل الخاصة بالسوريين في مصر، يبحث كثيرون عن سبيل للعودة، أسئلة كثيرة عن أحوال البلد الداخلية، والوضع الأمني، والأسواق، وإيجارات المنازل لمن فقدوا بيوتهم، لتأتي الإجابات حاملة في قليلها تطمينا وفي كثيرها ترهيبا “الأحوال ليست مستقرة، لا تستعجلوا بالقدوم”، لكن هذه الردود لم تغير من عزيمة السوريين للعودة “إذا ما نرجع نعمرها ..مين راح يفعل” يقول معتز الخولي أحد السوريين الموجودين بمصر، والذي عرض أثاث منزله للبيع في القاهرة، قائلا للجزيرة نت “مصر الغالية استقبلتنا وأحسنت استقبالنا سنين وما زال أهلها لا يريدون رحيلنا.. لكن وطننا أولى بمجهودنا ووجودنا في هذا الوقت”، كثيرون مثل معتز يرغبون في العودة، لكن قليلين منهم من يعرضون منازلهم وأثاثهم للبيع، فكثيرون يبحثون عن خيار آخر.

شحن الأثاث إلى سوريا هي رغبة كثير من السوريين في مصر، لأن تكلفة شراء أثاث جديد لم تكن تخطر على بال أحد في هذا التوقيت، فكما تقول لبنى (37 عاما) للجزيرة نت “أسست منزلي في مدينة العبور بالقاهرة على أساس أنه منزلي الدائم، فاشتريت أثاثا كاملا وأجهزة حديثة، تكلفتها الآن تتجاوز مئات الآلاف، وسأخسر كثيرا إذا عرضته للبيع الآن، أو اشتريت بديلا في حلب حين عودتي”، سألت لبنى عن شركات شحن الأثاث ومنهم عرفت أن تكلفة النقل تبلغ 1500 دولار للكونتينر الواحد، ويسع الواحد منها لأثاث 3 منازل، لذا قررت لبنى أن تتشارك تكلفة الشحن مع معارف لها قرروا العودة أيضا، لكن العقبة الوحيدة الآن هي انتظار شركات الشحن لحين وضوح الرؤية في سوريا وعودة الملاحة.

الأثر الاقتصادي لرحيل السوريين عن مصر

أشار الباحث السياسي السوري جوزيف ضاهر في تقرير له إلى أن الاستثمارات السورية في مصر بلغت حوالي 800 مليون دولار حتى عام 2018، وازدادت ازديادا ملحوظا بعد جائحة كورونا، حيث كانت مصر الملاذ الآمن للسوريين خلال أزمتهم، مما ساعدهم على بناء شبكة اقتصادية متنامية.

Syrian refugee presents a necklace and earrings she crafted at a United Nations Population Fund, safe space for refugee women and girls residing in Cairo, Egypt October 29, 2018. Picture taken October 29, 2018. REUTERS/Mohamed Abd El Ghany

من جهته، أوضح مازن العارف، رجل أعمال سوري مقيم بمصر منذ 2012، أن العودة لن تكون سريعة أو تؤدي إلى إنهاء الأعمال في مصر. وأضاف “مصر فتحت ذراعيها لنا، ولن نرد الجميل بإضافة أزمات جديدة للوضع الاقتصادي”.

تصريحات رجال الأعمال السوريين تعكس رغبتهم في الموازنة بين العودة للوطن والحفاظ على استثماراتهم في مصر.

شاركها.
اترك تعليقاً

2024 © السعودية خبر. جميع حقوق النشر محفوظة.