تتصدر شانلي أورفا، المدينة التركية الجنوبية الغنية بالتاريخ والثقافة، المشهد العالمي مجددًا، وذلك بعد ترشيحها رسميًا لنيل لقب “المدينة العالمية الرائدة في فنون الطهي” لعام 2029. هذا الترشيح، الذي حظي بتقييم دولي إيجابي من المعهد الدولي لفنون الطهي والثقافة والسياحة بالتعاون مع منظمة السياحة العالمية واليونسكو، يمثل اعترافًا عالميًا بالإرث المطبخي الفريد للمدينة، والذي يرتكز على تقاليد عريقة في الضيافة والموائد الجماعية. يهدف هذا الإنجاز إلى تعزيز مكانة شانلي أورفا كوجهة سياحية وثقافية متميزة، وتحقيق نمو اقتصادي مستدام.
شانلي أورفا: رحلة نحو لقب المدينة العالمية في فنون الطهي
أعلن رئيس بلدية شانلي أورفا، محمد قاسم غولبينار، عن هذا الترشيح المرموق في مؤتمر صحفي، مؤكدًا أنه يستند إلى ثقافة الموائد الجماعية المتجذرة في المجتمع الأورفاوي، والإنتاج الغذائي المحلي الغني، وقيم الكرم والمشاركة التي تميز المنطقة. وأضاف أن البلدية تعمل حاليًا على وضع استراتيجية شاملة وخطة عمل مرحلية لتحويل هذا الترشيح إلى قيمة مضافة ملموسة بحلول عام 2029، مع التركيز على تطوير البنية التحتية السياحية وتعزيز القدرات المحلية.
الإرث المطبخي لشانلي أورفا: أكثر من مجرد طعام
لا يمثل المطبخ الأورفاوي مجرد مجموعة من الوصفات والأطباق، بل هو تعبير حي عن التاريخ الاجتماعي والحضاري للمدينة. ففي شانلي أورفا، يُنظر إلى الطعام على أنه ممارسة ثقافية جماعية، حيث يجتمع الناس حول المائدة لتبادل الأحاديث وتقوية الروابط الاجتماعية. هذه الثقافة العريقة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بذاكرة المدينة وتراثها، وخاصةً بذكر النبي إبراهيم الخليل، الذي يعتبر رمزًا للكرم والضيافة في المنطقة.
توارث أهل أورفا تقليد “سفرة إبراهيم الخليل”، التي تجسد قيم الكرم وحفاوة استقبال الضيف. الخبز والملح ليسا مجرد غذاء، بل هما رابط اجتماعي يجمع الناس معًا. هذه الروح الجماعية والإيثارية هي ما منحت أورفا تميزها في ملف الترشيح، وأبرزت مكانتها كمدينة تحمل مفهومًا إنسانيًا خاصًا لفنون الطهي.
اعتراف دولي متزايد بمكانة شانلي أورفا الثقافية
لم يكن ترشيح شانلي أورفا لمدينة اليونسكو في فنون الطهي هو الاعتراف الدولي الأول الذي تحظى به المدينة. ففي عام 2023، انضمت شانلي أورفا إلى شبكة اليونسكو للمدن الإبداعية في مجال الموسيقى، مما يؤكد مكانتها كمركز ثقافي نابض بالحياة.
بالإضافة إلى ذلك، فازت المدينة باستضافة اجتماع مدن الموسيقى التابعة لليونسكو في عام 2026، متفوقة على العديد من المدن العالمية المنافسة. هذه الإنجازات تعكس المسار الثقافي المتصاعد الذي تشهده شانلي أورفا، وتؤكد التزامها بالحفاظ على تراثها وتعزيزه.
فرص اقتصادية وسياحية واعدة
يفتح ترشيح شانلي أورفا لمدينة اليونسكو في فنون الطهي آفاقًا واسعة لتحويل رصيدها الثقافي والغذائي إلى محرك اقتصادي فعال. من المتوقع أن يجذب اللقب المرتقب السياح وعشاق فنون الطهي من جميع أنحاء العالم، مما سيؤدي إلى زيادة الإيرادات السياحية وتعزيز النمو الاقتصادي المحلي.
تضم مائدة شانلي أورفا قرابة 400 صنف من الأطباق المحلية التي تقدم بأساليب تقليدية أصيلة. تشمل هذه الأطباق مشاوي اللحوم والكباب الأورفلي المعروف بنكهته المعتدلة، وأطباق الخضار والبقوليات، بالإضافة إلى الحلويات الشرقية والقهوة المرة التي تعتبر جزءًا لا يتجزأ من ثقافة الضيافة المحلية.
سياحة الطعام: محرك للنمو المستدام
لا تقتصر المكاسب المحتملة على زيادة أعداد الزوار، بل تمتد إلى تنشيط سلاسل الإنتاج المحلية المرتبطة بالغذاء. فارتفاع الطلب على المنتجات الأورفية التقليدية، مثل البهارات البلدية والأجبان والمحاصيل الزراعية المحلية، سيفتح المجال أمام المزارعين والحرفيين لتوسيع نطاق أعمالهم والدخول إلى أسواق جديدة.
يتماشى هذا التوجه مع المبادرة التركية الأوسع نطاقًا لتوظيف المطبخ كرافد اقتصادي وأداة قوة ناعمة. أعلنت أنقرة في عام 2024 عن مبادرة بالتعاون مع اليونسكو للتعريف بنحو 2200 طبق محلي من مختلف المناطق، بهدف رفع عائدات سياحة الطعام إلى حوالي 18 مليار دولار سنويًا.
نحو تحول هيكلي في خريطة السياحة التركية
يرى الخبير السياحي عمر أرصوي أن ترشيح شانلي أورفا قادر على إحداث تحول هيكلي في خريطة السياحة التركية، لكن هذا التحول يعتمد على كيفية إدارة هذا الاستحقاق. ويؤكد أرصوي أن القيمة الحقيقية لهذا الترشيح تكمن في دمجه ضمن سياسة سياحية طويلة الأمد تهدف إلى إعادة توزيع الحركة السياحية داخل البلاد بشكل أكثر توازناً.
يشير أرصوي إلى أن السياحة في تركيا كانت متركزة لعقود على الشريط الساحلي والمدن التاريخية الكبرى، بينما بقيت مدن الأناضول ذات العمق الثقافي خارج التدفقات السياحية المستقرة. في هذا السياق، تبرز شانلي أورفا كنموذج مختلف يعتمد على “سياحة التجربة” بدلاً من “سياحة المشاهدة”، حيث يعيش الزائر داخل الثقافة المحلية من خلال الطعام والأسواق والطقوس الاجتماعية اليومية.
إن ترشيح شانلي أورفا لمدينة اليونسكو في فنون الطهي يمثل فرصة فريدة لتعزيز مكانة المدينة كوجهة سياحية وثقافية متميزة، وتحقيق نمو اقتصادي مستدام. من خلال الاستثمار في البنية التحتية السياحية وتعزيز القدرات المحلية، يمكن لشانلي أورفا أن تصبح نموذجًا يحتذى به للمدن الأخرى التي تسعى إلى توظيف تراثها الثقافي والغذائي لتحقيق التنمية المستدامة. شانلي أورفا ليست مجرد مدينة، بل هي تجربة ثقافية غنية تنتظر من يكتشفها.















