في القسم، حيث يجلس التلاميذ في مقاعدهم المتلاصقة، وينظرون إلى السبورة المملوءة بمعلومات تبدو نفيسة، لا تتوقف أصواتهم الصاخبة، المحاصَرة بعبارات النداء: تارة «معلّمي»، وتارة أخرى «أستاذ!». وغايتها لا تتجاوز تلك الوظائف التي يتقنها الطفل بشغف؛ الهروب من مقاعد الدراسة، أو الفرار نحو ساحة مفتوحة على هواء الطبيعة، يبحث فيها عن متنفس لأحلامه الصغيرة. هذا هو المشهد الذي يتردد صداه في ذاكرتنا الجماعية، مشهد يختفي تدريجياً ليحل محله واقع أكثر قسوة، واقع يسرق أحلام الطفولة داخل حجرات التدريس. هذا المقال يسعى لاستكشاف هذا التحول المؤلم، وتأثيره على الأجيال الصاعدة.

تحول “حجرات التدريس”: من ملاذ المعرفة إلى معتقل الأحلام

داخل «حجرات التدريس» ثمّة عالم مركون في زواياها، وآخر يملؤها حبّا وتفانيا، وما بينهما أصوات هادئة، ووجوه مبتسمة، وعقول نضرة، وأياد تتسابق للكتابة على لوح الحجرة المقدّس. لكن هذا الوصف المثالي يتناقض بشكل صارخ مع الواقع الذي يعيشه العديد من الطلاب اليوم. فالحياة في المدرسة، التي كان من المفترض أن تكون محفزة للإبداع ومغذية للعقول، أصبحت بالنسبة للكثيرين مجرد روتين ممل، يهدف إلى حشو المعلومات دون الاهتمام بتنمية القدرات الحقيقية.

لقد تحولت هذه المساحات، التي كانت تعتبر مقدسة، إلى أماكن تُخمد فيها الطموحات وتُسلب فيها البراءة. التركيز المفرط على العلامات والنتائج، والضغوط المتزايدة على الطلاب والمعلمين، أدت إلى فقدان الجانب الإنساني في العملية التعليمية. لم تعد حجرات التدريس أماكنًا للاكتشاف والمتعة، بل أصبحت ساحات للتنافس والقلق.

اللوح المقدّس: رمزية ضائعة في زمن الكفاءات

اللوح المقدّس، الذي كان يمثل نافذة على العالم، ومصدرًا للإلهام، أصبح مجرد سطح جاف، تختصر عليه مسيرة معرفية وقيمية للمتمدرسين في أنشطة يراها المرافق التربوي وسيلة أساسية لتحقيق الكفاءة الشاملة. هذا التحول يعكس تغيرًا في الأولويات، حيث أصبحت الكفاءات والمهارات المطلوبة لسوق العمل هي المعيار الوحيد للنجاح، على حساب القيم الإنسانية والأخلاقية.

لم يعد التاريخ يُروى كقصص ملهمة، بل كأحداث يجب حفظها من أجل الاختبارات. لم تعد العلوم تُدرس كطريقة لفهم الكون، بل كمجموعة من القوانين والنظريات التي يجب تطبيقها. هذا النهج التجريبي، الذي يفتقر إلى الخيال والإبداع، يقتل الفضول ويُثبط الهمم.

فقدان الجوانب الإنسانية والإبداعية

إن افتقاد الجوانب الإبداعية والإنسانية لدى المتعلمين هو ما يشكل الانفلات الصامت حضاريا. فالطفل ليس مجرد وعاء يجب ملؤه بالمعلومات، بل هو كائن فريد، له قدرات ومواهب خاصة، يجب اكتشافها وتنميتها. عندما نركز فقط على الجانب المعرفي، فإننا نهمل الجانب العاطفي والاجتماعي، ونحرم الطفل من فرصة التعبير عن نفسه، وتطوير شخصيته.

“أنسنة التعليم”: ضرورة ملحة لاستعادة الثقة

إن المقاربة المعرفية لأبنائنا لا ينبغي أن تُختزل في المناهج التعليمية والكفاءات الختامية. بل الواجب أن ننظر إلى المتمدرس باعتباره طفلا، لا سلعة يُراد تدويرها ضمن برامج آنية. هنا تبرز أهمية “أنسنة التعليم”، وهي عملية تهدف إلى إعادة الإنسان إلى قلب العملية التعليمية، والتركيز على احتياجاته وقدراته الفردية.

“أنسنة التعليم” تتطلب تغييرًا جذريًا في المناهج وطرق التدريس، وتبني نهجًا أكثر مرونة وتفاعلية. كما تتطلب توفير بيئة تعليمية محفزة للإبداع، وتشجع على التفكير النقدي، وتنمي القيم الإنسانية. إنها تتطلب أيضًا إعادة النظر في دور المعلم، وتحويله من مجرد ناقل للمعرفة إلى مرشد وموجه، يساعد الطلاب على اكتشاف قدراتهم وتحقيق طموحاتهم. التعليم يجب أن يكون رحلة ممتعة، لا مهمة شاقة.

من معسكرات ناعمة إلى ملاذات آمنة: مستقبل حجرات التدريس

لقد أصبحت حجرات التدريس في كثير من الأحيان معتقلات ناعمة، تُسرق فيها طموحات الطفل، ويُنكَّل فيها بمواهبه. إن الطفل يشعر بأن المدرسة سجن يحبس فيه آماله ورغباته، ويعزله عن محيطه الذي يفترض أن يكون امتدادًا لحياته المدرسية. لذلك، يجب علينا أن نسعى إلى تحويل هذه المساحات إلى ملاذات آمنة، يشعر فيها الطلاب بالراحة والأمان، ويتمكنون من التعبير عن أنفسهم بحرية.

إن تحقيق هذا الهدف يتطلب تضافر جهود جميع الأطراف المعنية: الحكومات، والمدارس، والمعلمين، وأولياء الأمور، والمجتمع المدني. يجب علينا أن نستثمر في التعليم، وأن نوفر الموارد اللازمة لتطويره وتحسينه. يجب علينا أيضًا أن ندعم المعلمين، وأن نوفر لهم التدريب والتأهيل اللازمين، وأن نكافئهم على جهودهم. والأهم من ذلك، يجب علينا أن نؤمن بأهمية التعليم، وأن نجعله أولوية قصوى. فالتعليم هو مفتاح المستقبل، وهو السبيل الوحيد لتحقيق التقدم والازدهار.

في الختام، يجب أن نتذكر أن حجرات التدريس ليست مجرد جدران وأثاث، بل هي أماكن مقدسة، يجب أن نحافظ عليها ونحميها. إنها أماكن تنشأ فيها الأحلام، وتتفتح فيها المواهب، وتتشكل فيها الشخصيات. فلنعمل معًا على استعادة هذه القدسية، وتحويل حجرات التدريس إلى ملاذات آمنة، تغذي العقول، وتلهم القلوب، وتصنع المستقبل.

شاركها.
اترك تعليقاً