مع تسارع التطور التكنولوجي، صار تتبّع النوم جزءا أساسيا من الروتين اليومي للملايين حول العالم، فقد انتشرت الأجهزة القابلة للارتداء، مثل الساعات الذكية، بين المستخدمين الساعين إلى تحسين نومهم من خلال مراقبته بدقة. هذا الاهتمام المتزايد بالنوم، رغم فوائده المحتملة، أدى إلى ظهور ظاهرة مقلقة تُعرف بـ هوس النوم المثالي (Orthosomnia).

ما هو هوس النوم المثالي (Orthosomnia)؟

وفقًا للأكاديمية الأميركية لطب النوم، يستخدم نحو ثلث البالغين في الولايات المتحدة أدوات تتبّع النوم بانتظام، معتقدين أن البيانات الرقمية ستقودهم إلى “النوم المثالي”. لكن هذا السعي المحموم يمكن أن ينقلب على صاحبه. ظهر مصطلح “الأورثوسومنيا” عام 2017 على يد عالمة النفس كيلي بارون لوصف حالة ينشغل فيها الفرد بشكل مفرط بتحقيق أعلى “درجات” ممكنة للنوم، استنادًا إلى الأرقام التي تعرضها الأجهزة الذكية.

مع الوقت، يصبح الشخص مهووسًا بقياساته اليومية، يراجعها ويفسّرها بدقة، الأمر الذي يرفع من مستوى القلق، ويؤدي في النهاية إلى تدهور النوم بدلاً من تحسينه. هذا القلق المستمر حول تحقيق “نوم مثالي” يصبح هو المشكلة الرئيسية، وليس قلة النوم نفسها.

كيف تتحول التكنولوجيا إلى مصدر قلق؟

المفارقة المؤسفة تكمن في أن محاولة تحسين النوم عبر التكنولوجيا قد تقود إلى نتيجة معاكسة تمامًا. تركيز الشخص المفرط على تتبّع نومه ومراقبة كل دقيقة وكل مرحلة يولّد حالة مستمرة من التوتر والقلق. هذا التوتر ينعكس سلبًا على جودة النوم الحقيقية، ليتحوّل الأمر إلى حلقة مفرغة يصعب كسرها.

وازداد المشهد تعقيدًا عندما أصبح النوم نفسه منافسة اجتماعية لا علاقة لها بالصحة. فلم يعد الهدف فهم النوم أو دعمه، بل تحقيق أعلى الأرقام التي تعرضها التطبيقات. شخصيات مؤثرة مثل غوينيث بالترو وكيم كارداشيان ساهمت في هذا التوجه من خلال مشاركة بيانات نومهن على وسائل التواصل الاجتماعي، مما عزز فكرة أن الحصول على “أفضل درجات نوم” هو أمر يستحق التباهي به.

هذا التحول يُحول النوم، وهو وظيفة بيولوجية طبيعية، إلى سباق أداء يضاعف الضغوط النفسية، ويجرد النوم من غايته الأساسية وهي استعادة الطاقة والتعافي. وهو يظهر تأثيرًا سلبياً لوسائل التواصل الاجتماعي على الصحة.

هل قراءات الأجهزة الذكية دقيقة حقًا؟

على الرغم من انتشارها الواسع، فإن دقة أجهزة تتبّع النوم الشخصية أقل بكثير مما يظنه الكثيرون. في أفضل الحالات، لا تتجاوز دقتها 60% مقارنة بالأجهزة المخبرية المتخصصة، مثل تلك المستخدمة في مراكز اضطرابات النوم.

تعتمد هذه الأجهزة على مؤشرات عامة وغير مباشرة مثل معدل ضربات القلب أو مستوى الحركة. هذا يعني أنها قد تسجل فترات الاسترخاء على السرير كنوم فعلي، أو تعجز عن التمييز بشكل موثوق بين مراحل النوم المختلفة.

البروفيسور كريستوفر جوردون، من جامعة ماكواري الأسترالية، يشير إلى أن العديد من هذه الأجهزة تعتمد فقط على قياس الحركة، مما يجعلها غير قادرة على تقييم جودة النوم بشكل كامل. بينما توضح جين والش، من جامعة غرب أستراليا، أن تحديد “نوم جيد” ليس بالأمر السهل، فهو يتجاوز مجرد عدد ساعات النوم ليشمل توزيع مراحل النوم واستقرارها.

علامات تدل على إصابتك بهوس النوم المثالي (Orthosomnia)

من أبرز المؤشرات التي تكشف الدخول في دائرة تحسين النوم بطرق غير صحية:

  • التحقق المستمر من بيانات النوم فور الاستيقاظ أو حتى أثناء الليل.
  • القلق المتزايد بشأن الوصول إلى “الأهداف اليومية” التي تحددها التطبيقات.
  • قضاء وقت طويل في تحليل البيانات على حساب الأنشطة الحياتية اليومية.
  • صعوبة في النوم بسبب التوتر الناتج عن مراقبة الأرقام والتقييمات.

ومع تضخم هذا الانشغال المستمر، يتحول النوم إلى مصدر ضغط نفسي يؤثر في الإيقاع اليومي والصحة العامة.

كيف تستخدم التكنولوجيا بحكمة؟

لا يعني هذا أن أجهزة تتبّع النوم ضارّة بحد ذاتها. يكمن الحل في طريقة استخدامها والتوقعات التي نربطها ببياناتها. إليك بعض النصائح:

  • استخدم الأجهزة كمرشد عام، وليس كأداة تشخيص دقيقة. تعامل مع البيانات باعتبارها مؤشرات تقريبية، وليست حقائق نهائية عن جودة نومك.
  • ركز على شعورك الحقيقي خلال النهار. طاقتك وتركيزك ومزاجك هي المقياس الأصدق لجودة النوم.
  • حدد أهدافًا واقعية. لست مضطرًا للحصول على “درجة مثالية” كل ليلة.
  • خذ فترات راحة من التتبع. جرّب خلع الساعة الذكية لأسبوعين، ولاحظ تأثير ذلك على مستوى القلق وجودة النوم.
  • إذا شعرت أن بيانات النوم تثير لديك قلقًا مستمرًا، فاستشر مختصًا في طب النوم. العلاج السلوكي المعرفي للأرق يمكن أن يساعدك في بناء عادات نوم صحية.

في النهاية، تذكر أن النوم عملية طبيعية عرفها الجسد قبل ظهور أي تقنية. جسدك يعرف كيف ينام، وشعورك بالراحة والنشاط أثناء النهار هو المعيار الذي يستحق الثقة، لا الرقم الذي يظهر على شاشة جهاز إلكتروني مهما بدا ذكيًا. لا تدع السعي وراء “النوم المثالي” يحول النوم إلى مهمة مرهقة، بل دعْه يكون فترة راحة واستعادة للطاقة.

شاركها.
اترك تعليقاً