يشهد الاتحاد الأوروبي تحولًا ديموغرافيًا مقلقًا، حيث تتجه القارة نحو أول انخفاض في عدد السكان منذ الطاعون الأسود في القرن الرابع عشر. هذا التراجع السكاني، الذي يثير مخاوف اقتصادية واجتماعية عميقة، دفع الحكومات الأوروبية إلى البحث عن حلول جذرية لتعزيز معدلات الإنجاب. يركز هذا المقال على أسباب هذا الانخفاض، والسياسات المتبعة لمواجهته، وتقييم مدى نجاح هذه الجهود، مع التركيز على تجربة المجر كنموذج بارز.
التراجع السكاني في أوروبا: خطر يهدد المستقبل
وفقًا لتقرير نشرته صحيفة “واشنطن بوست”، من المتوقع أن يصل عدد سكان أوروبا إلى ذروته في العام المقبل قبل أن يبدأ في الانحدار. هذا السيناريو ليس مجرد رقم إحصائي، بل ينطوي على تحديات كبيرة تتعلق بتقلص القوى العاملة، وزيادة الأعباء على أنظمة التقاعد والرعاية الصحية، واحتمال حدوث عجز اقتصادي. التراجع السكاني يهدد النموذج الاقتصادي والاجتماعي الذي اعتمدت عليه أوروبا لعقود. الحكومات الأوروبية تدرك خطورة الوضع وتسعى جاهدة لإيجاد حلول مستدامة.
سباق الحوافز: سياسات لزيادة معدلات الإنجاب
لم تكتفِ الحكومات الأوروبية بالتحذير من مخاطر التراجع الديموغرافي، بل أطلقت برامج حوافز مالية وسياسات أسرية طموحة بهدف تشجيع الإنجاب. تتراوح هذه الحوافز بين مكافآت مالية للأمهات العاملات، وزيادة المساعدات الشهرية للأسر، وتقديم قروض سكنية بشروط ميسرة، وإعفاءات ضريبية كبيرة للأهالي.
نماذج من دول مختلفة
- إيطاليا: تقدم مكافآت مالية للأمهات العاملات اللواتي لديهن طفلان أو أكثر.
- بولندا: رفعت قيمة المساعدات الشهرية للأسر إلى حوالي 220 دولارًا لكل طفل، وقدمت إعفاءات ضريبية للأهالي الذين لديهم طفلان أو أكثر.
- فرنسا: أطلق الرئيس ماكرون دعوة إلى “إعادة تسليح ديموغرافي” بعد انخفاض حاد في معدلات الخصوبة.
التجربة المجرية: طموحات وحدود السياسات السكانية
تعتبر المجر مثالًا واضحًا على الطموحات الكبيرة والقيود الواقعية للسياسات السكانية. فقد قامت المجر بتوسيع برامج دعم الأسرة بشكل كبير، وأصبحت تقدم نظام مزايا سخيًا يضاهي دول اسكندنافيا، حيث تنفق حوالي 5% من ناتجها المحلي الإجمالي على سياسات الأسرة، وهو ما يتجاوز إنفاق الولايات المتحدة على الدفاع.
وتشمل هذه السياسات:
- إجازات مدفوعة الأجر للأجداد لرعاية الأطفال.
- قروض سكنية بشروط تفضيلية للأزواج.
- قروض بقيمة 30 ألف دولار تُعفى من السداد في حال إنجاب ثلاثة أطفال أو أكثر.
- إعفاءات ضريبية مدى الحياة من ضريبة الدخل الشخصي للنساء اللواتي لديهن ثلاثة أطفال.
هل نجحت المجر؟
في البداية، بدت التجربة المجرية واعدة، حيث ارتفعت الخصوبة من 1.25 إلى 1.61 بين عامي 2015 و2021. لكن هذا الارتفاع كان مؤقتًا، حيث عادت معدلات الخصوبة إلى الانخفاض لتصل إلى 1.39 بحلول عام 2024، وهو رقم قريب من متوسط الاتحاد الأوروبي. يثير هذا التراجع تساؤلات حول فعالية الحوافز المالية في تغيير قرارات الإنجاب.
أسباب التراجع في معدلات الإنجاب: عوامل هيكلية واجتماعية
لا يمكن اختزال أسباب انخفاض الخصوبة في أوروبا إلى مجرد عوامل اقتصادية أو مالية. هناك عوامل هيكلية واجتماعية عميقة تلعب دورًا حاسمًا في هذا التحول الديموغرافي.
- ارتفاع تكاليف المعيشة والسكن: يجعل إنجاب الأطفال أمرًا صعبًا من الناحية المالية.
- توسع فرص التعليم والعمل للنساء: يؤدي إلى تأخير الإنجاب أو اختيار عدم الإنجاب.
- تأثير وسائل التواصل الاجتماعي وتطبيقات المواعدة: تعزز أنماط الحياة الفردانية وتؤخر الاستقرار العاطفي والاجتماعي.
- توفر وسائل منع الحمل: يمنح الأفراد حرية أكبر في التخطيط لأسرهم.
- تراجع حمل المراهقات: يعكس تحسن الوعي الصحي والاجتماعي.
مستقبل أوروبا الديموغرافي: تحديات وفرص
يشير التقرير إلى أن التراجع الديموغرافي في أوروبا يعكس تحولات اجتماعية واقتصادية وثقافية عميقة، تجعل من الصعب على السياسات الحكومية وحدها تغيير مساره. الحوافز المالية قد تشجع بعض الأفراد على تسريع قراراتهم بالإنجاب، لكنها لا تعالج الأسباب الجذرية للمشكلة.
من الضروري أن تركز الحكومات الأوروبية على:
- الاستثمار في التعليم الرسمي والنظام الصحي العام.
- توفير سكن ميسر التكلفة.
- دعم التوازن بين الحياة العملية والشخصية.
- تعزيز المساواة بين الجنسين.
- تشجيع الهجرة المنظمة.
في الختام، يمثل التراجع السكاني تحديًا وجوديًا لأوروبا. يتطلب مواجهة هذا التحدي اتباع نهج شامل ومتكامل يعالج الأسباب الهيكلية والاجتماعية والثقافية للمشكلة، ويستثمر في مستقبل الأجيال القادمة. هل ستتمكن أوروبا من التكيف مع هذا التحول الديموغرافي، أم ستواجه عواقب وخيمة على اقتصادها ومجتمعها؟ هذا ما ستكشف عنه السنوات القادمة.


