بقلم:&nbspيورونيوز

نشرت في

اعلان

لم يكن واقع جهاز الدفاع المدني في غزة قبل الحرب الحالية أفضل حالًا مما كان عليه في السنوات السابقة، إذ عانى طيلة 17 عامًا من قيود خانقة حالت دون إدخال المعدات الثقيلة وسيارات الإسعاف الحديثة وآليات الحفر وإزالة الركام.

وقد تركت هذه القيود الإسرائيلية أثرًا بالغًا على قدرة الجهاز في التعامل مع أي طارئ، حيث اعتمدت الطواقم على معدات متهالكة أكل عليها الدهر وشرب، وأدوات بدائية لا تكفي للاستجابة للكوارث الإنسانية.

وهكذا دخلت غزة الحرب في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 وهي تفتقر إلى أبسط مقومات منظومة إنقاذ متكاملة، ما جعل كل مهمة إسعاف أو إطفاء أو انتشال جثث تتحول إلى معركة بحد ذاتها.

80% من المقدرات خارج الخدمة

خلال عامين من الحرب المتواصلة، تعرض جهاز الدفاع المدني لأكثر من استهداف إسرائيلي طال مقراته وعناصره ومركباته، وفقًا لوزارة الصحة في القطاع.

وبحسب بيانات الجهاز، جرى تدمير أو تعطيل نحو 80% من قدرته التشغيلية، بعد خروج عشرات سيارات الإطفاء والإسعاف من الخدمة، واستهداف أكثر من 30 مركزًا ومحطة “بشكل مباشر”.

كما قُتل ما لا يقل عن 138 من أفراد الجهاز أثناء أداء مهامهم، وأصيب المئات بجروح متفاوتة. ومع تزايد وتيرة القصف، باتت الفرق الميدانية تجد نفسها عاجزة عن تلبية عشرات النداءات المتزامنة.

هذا التراجع الكارثي في القدرات كشف هشاشة المنظومة الإنسانية في القطاع، وحوّل مهمة الدفاع المدني من استجابة شاملة إلى عمليات محدودة في ظل عجز متراكم.

المتحدث باسم الدفاع المدني لـ “يورونيوز”: نناشد العالم لإنقاذ المدنيين

يشرح محمود بصل، المتحدث باسم جهاز الدفاع المدني لـ” يورونيوز” حجم المعيقات التي تواجه الطواقم في عمليات الإنقاذ والانتشال، قائلاً: “قبل مدة طال قصف إسرائيلي عائلة الحصري في منطقة الشاطئ. كان هناك 25 مواطنًا داخل البناية، نسمع صراخهم وأنين الأطفال وصراخ النساء، لكن لا نستطيع أن نفعل لهم شيئًا.”

ويتابع بصل: “نحتاج إلى إمكانات ومقدرات حتى نقوم برفع الأنقاض ومن ثم نبدأ بعمليات إنقاذ المواطنين أو انتشالهم، وبالتالي هذا الأمر غير موجود.”

ويؤكد بصل أن إمداد الجهاز بما يحتاجه باتت “مسألة ملحة”، قائلًا: “نحن نتحدث عن آلاف، بل عشرات الآلاف من المهام التي لم نستطع التعامل معها. اليوم لدينا أكثر من 10 آلاف و450 مواطنًا تحت الأنقاض حتى اللحظة لا نستطيع انتشالهم. الأخطر من ذلك أن هناك كثيرًا من الناس يبقون تحت الأنقاض على قيد الحياة لأيام وربما لأسابيع، لا يموتون، يحتاجون فقط عملية تحرير، لكن لأن الطواقم لا تملك المعدّات والمقدرات يلقون حتفهم ويموتون.”

ويردف: “رسالتنا للعالم إنسانية بحتة: أنقذوا الأبرياء والمدنيين من خلال حمايتهم ومن خلال توفير كل ما يلزم من المنظومة الخدماتية حتى نمارس مهامنا الإنسانية في القطاع على أكمل وجه.”

طواقم تحت الخطر

إلى جانب خسارة المعدات، يرزح أفراد الدفاع المدني تحت ضغوط نفسية هائلة، إذ يتعرض الكثير منهم للإصابة أو الاعتقال، فيما فقد آخرون حياتهم أثناء أداء واجبهم في الميدان، رغم أن القانون الدولي يمنحهم الحماية.

ورغم محدودية الوسائل، يواصل هؤلاء عملهم لساعات طويلة بين أنقاض المنازل والمستشفيات المدمرة، مخاطرين بحياتهم، ليكونوا خط الدفاع الأخير عن حياة المدنيين.

أصوات من تحت الركام

غياب الإمكانيات ليس مجرد أرقام وإحصاءات، بل يعايشه المدنيون في تفاصيل حياتهم اليومية. فكل لحظة قصف كانت تتحول إلى سباق مع الزمن بين الحياة والموت، في ظل تأخر أو غياب فرق الإنقاذ.

يصف حسام مقداس، نازح من البريج يقيم حاليًا في دير البلح، إحدى هذه اللحظات قائلًا: “كنت أنا وابن عمي في البيت، أفطرنا كالعادة، وفجأة صار قصف للبيت وقلبت الدار علينا. بقينا تحت الركام وأُصبنا إصابات طفيفة. لم يكن هناك معدات ولا آليات، الناس بأيديهم هم الذين أخرجونا من تحت الركام ونقلونا إلى مستشفى الأقصى. الدفاع المدني وصل متأخرًا، ولم يكن لديهم إمكانيات، الناس هم من أنقذونا.”

تجربة حسام لم تكن استثناءً، بل تكررت بصور أشد مأساوية في مناطق أخرى. ففي مخيم جباليا، يروي النازح خليل المبحوح مشاهد مشابهة، قائلًا: “من بداية الحرب في أكتوبر 2023 وحتى الهدنة، كانت الأوضاع صعبة جدًا. عندما كان يُستهدف منزل على ساكنيه، لم يكن هناك إسعاف ولا دفاع مدني. نحن الناس كنا نتحول إلى إسعاف ودفاع مدني بلا خبرة. كنت أحفر بيدي بين الباطون والحديد لأخرج طفلة صغيرة من تحت الركام، كانت تصرخ: ‘بابا أنقذني’، ونجت بفضل الله. في حادثة أخرى، استُهدف جيراننا مع أذان المغرب، لم نجد إسعافًا ولا نقالات، غطينا الضحايا بألواح الزينكو والخشب ونقلناهم بأنفسنا.”

من حي الزيتون في غزة، يروي النازح إبراهيم حسونة: “استُهدف بيتنا بشكل مباشر، ونجونا أنا وأبي فقط من القصف. بقينا ساعة كاملة ننادي الناس ليخرجونا من تحت الردم، بينما استُشهد باقي أفراد العائلة. الدفاع المدني لم يستطع الوصول، والمنطقة كانت محظورة على الإسعاف. الناس هم من أخرجونا بأدوات بدائية. أبي ما زال يعاني صدمة عميقة منذ ذلك اليوم.”

وإذا كانت قصص حسام وخليل وإبراهيم تكشف عجز الإنقاذ في لحظات القصف الأولى، فإن مأساة خديجة أبو صفية من أبراج الندى ببيت حانون تجسد الوجه الأكثر قسوة لذلك العجز. تقول: “نزحنا إلى دير البلح بحثًا عن الأمان، لكن القصف طالنا هناك أيضًا. انهار المبنى فوقنا، وأخرجنا الجيران من تحت الركام. استُشهد زوجي، وأُصيب أطفالي الثلاثة بجروح خطيرة. الدفاع المدني وصل متأخرًا بسبب صعوبة الوصول، وكذلك الإسعاف. لولا تدخل الناس بأيديهم لما نجونا. بقيت في العناية المركزة أكثر من شهر بسبب إصاباتي.”

الوضع الراهن: قيود إسرائيلية وأزمة مستمرة

مع استمرار القصف الإسرائيلي، يحذر الدفاع المدني في قطاع غزة من التبعات الإنسانية الخطيرة على السكان في المناطق التي يعيد الجيش الإسرائيلي اجتياحها، في وقت تؤكد فيه منظمات إنسانية دولية أن إسرائيل لا تزال تمنع وصول الخيام ومستلزمات الإيواء إلى القطاع المحاصر منذ نحو ستة أشهر.

ويقول الدفاع المدني إن الجيش الإسرائيلي “يجبر سكان المناطق التي يجتاحها على النزوح نحو ما يسميها “منطقة إنسانية آمنة”، في إطار سياسة تهدف إلى تكريس معاناة المواطنين ووضع عوائق أمام استجابة فرق الدفاع المدني ونداءات الإغاثة”.

ويتلقى الدفاع المدني نداءات استغاثة على مدار الساعة من المواطنين المحاصرين في مناطق مثل الزيتون، الصبرة، جباليا، والتي تعتبرها الطواقم “مناطق عسكرية غير آمنة”، ما يحول دون الاستجابة لأغلب هذه النداءات.

ويحذر الدفاع المدني من “التبعات الإنسانية الخطيرة للسياسة الإسرائيلية الممنهجة التي تهدف إلى محاصرة المواطنين النازحين تدريجيًا في هذه المنطقة الإنسانية”، داعيًا المجتمع الدولي إلى التدخل العاجل لإجبار الاحتلال على احترام القانون الإنساني الدولي.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version