بقلم:&nbspيورونيوز

نشرت في

اعلان

أسفر الانفجار عن مقتل أكثر من 230 شخصًا، وإصابة أكثر من 6500 آخرين، وتسبب بأضرار مادية جسيمة في العاصمة اللبنانية، وأدى إلى استقالة الحكومة بعد أقل من أسبوع على وقوعه.

خمس سنوات مرّت منذ الانفجار، تنقل خلالها التحقيق القضائي بين محطات من التقدم والتعطيل، وسط ضغوط سياسية واتهامات متبادلة بالتسييس. ومع حلول الذكرى الخامسة، عادت القضية إلى الواجهة في ظل تغيّرات داخلية أضعفت قدرة القوى التي كانت تحاول عرقلة الملف، مما أعاد تحريك المسار القضائي، ورفع منسوب الحديث الرسمي عن المحاسبة وكشف الحقيقة.

تحقيق عدلي طويل ومعقّد

لم تكن مسيرة التحقيق في الجريمة مستقيمة. بعد وقوع الانفجار، تولّى القاضي فادي صوان التحقيق العدلي، وبدأ باستدعاء مسؤولين سياسيين وأمنيين، غير أن دعاوى “الارتياب المشروع” أدت إلى كفّ يده عن الملف في شباط/فبراير 2021.

بعد ذلك، أُسند الملف إلى القاضي طارق البيطار، الذي تابع التحقيق من حيث توقّف سلفه، ووجّه استدعاءات إلى وزراء ونواب حاليين وسابقين، من بينهم النائب ووزير المال السابق علي حسن خليل ووزير الأشغال السابق غازي زعيتر، المحسوبين على حركة أمل، حليف حزب الله، بالإضافة إلى مسؤولين في الأجهزة الأمنية.

مع تصاعد الاستدعاءات، تعرّض القاضي البيطار لهجوم سياسي مباشر، خاصة من جانب حزب الله، الذي اتهمه بالتسييس، وهدد صراحة من استمرار ما وصفه بـ”النهج الاستنسابي”، في إشارة إلى استدعاءات طالت حلفاء للحزب دون سواهم. وترافقت هذه الحملة مع اتهامات متزايدة للحزب بأنه يفرض سيطرة فعلية على مرفأ بيروت ومطار رفيق الحريري الدولي، ما يثير تساؤلات بشأن مدى مسؤوليته أو معرفته بمخاطر المواد المخزّنة.

أحداث الطيونة: لحظة انفجار سياسي

في 14 تشرين الأول/أكتوبر 2021، نظّمت حركة أمل وحزب الله تظاهرة أمام قصر العدل في بيروت للمطالبة بتنحية القاضي البيطار. وسرعان ما اندلع اشتباك مسلّح في منطقة الطيونة بين مناصرين لحركة أمل وحزب الله من جهة، والقوات اللبنانية برئاسة سمير جعجع من جهة أخرى، في حادثة خلّفت قتلى وجرحى، وأعادت التوتر الطائفي إلى الواجهة. الحادثة مثّلت ذروة التصعيد ضد مسار التحقيق، ورسّخت الانقسام الحاد حول مستقبل الملف القضائي.

فرضيات متداولة حول طبيعة الانفجار

في ظل غياب نتائج نهائية من التحقيق، برزت إلى جانب الرواية الرسمية حول الإهمال والتقصير الإداري فرضيات أخرى، من بينها احتمال تورّط إسرائيل في الحادث، سواء عبر استهداف مباشر لموقع حساس داخل المرفأ، أو ضمن عملية استخباراتية غير معلنة. هذه الفرضيات، التي تداولها سياسيون وإعلاميون لبنانيون، لم تثبت بالأدلة حتى الآن، كما لم تعتمدها التحقيقات الرسمية، إلا أن عدم تعاون بعض الدول في تقديم صور الأقمار الصناعية المتعلقة بيوم الانفجار، وخاصة الولايات المتحدة وفرنسا، أبقى هذه الفرضيات قيد التداول الشعبي والسياسي، وزاد من الشكوك العامة.

وفي مقابل التعطيل الذي شلّ التحقيق الداخلي، علت أصوات تطالب بتحقيق دولي مستقل برعاية الأمم المتحدة أو جهات قضائية خارجية، خصوصًا في ظل تشكيك واسع باستقلال القضاء المحلي وقدرته على محاسبة شخصيات تتمتع بحصانة سياسية أو طائفية. إلا أن هذه المطالب لم تلقَ تجاوبًا رسميًا من الدولة اللبنانية، رغم تبنيها من قبل عدد من الكتل النيابية ومنظمات حقوقية.

عودة البيطار وتحريك الملف

في كانون الثاني/يناير 2025، أعاد القاضي طارق البيطار تحريك الملف، بعدما استند إلى تفسير قانوني يعتبر أن تعليقه عن العمل لا يحجب صلاحياته الأساسية كمحقق عدلي. هذه العودة جرت في ظل تغير بالموازين السياسية، وتراجع قدرة الأطراف المعترضة على الضغط لوقف التحقيق.

اليوم، بات البيطار في مرحلة متقدّمة من التحقيق، ويستعد لإحالة الملف إلى النيابة العامة التمييزية لإبداء الرأي في الأساس القانوني، تمهيدًا لإصدار القرار الاتهامي الذي طال انتظاره منذ خمس سنوات.

دعم سياسي رسمي واضح

اللافت في الذكرى الخامسة كان تحوّل الخطاب الرسمي باتجاه دعم مسار التحقيق بوضوح أكبر، مقارنةً بالسنوات السابقة. رئيس الجمهورية جوزاف عون أكّد أن الدولة اللبنانية “بكل مؤسساتها ملتزمة بكشف الحقيقة كاملة، مهما كانت المعوّقات ومهما علت المناصب”، معتبرًا أن “العدالة لا تعرف الاستثناءات، والقانون يطال الجميع من دون تمييز”.

وشدّد عون على أن “دماء الشهداء لن تذهب سدى”، وأن محاسبة المسؤولين عن هذه الجريمة “أولوية دستورية لا يمكن التراجع عنها” وفق تعبيره.

من جهته، قال رئيس الحكومة نواف سلام، خلال مشاركته في افتتاح “شارع ضحايا الرابع من آب” قرب المرفأ، إن “تحقيق العدالة لا بد أن يحصل ولو تأخر، ولا سبيل إليها إلا بكشف الحقيقة”، مضيفًا أن القضية “وطنية بامتياز، ولا مكان فيها للتسويات”.

أما وزير العدل عادل نصار، فشدد على أن “الحكومة اتخذت قرارًا واضحًا بإكمال الملف حتى النهاية”، لافتًا إلى أن “العمل القضائي فُعّل، ويجب البتّ في كل الملفات العالقة”، معتبرًا أن “الدولة التي لا تُطلع شعبها على الحقيقة، دولة فاقدة للثقة”.

هل تُطوى صفحة الإفلات من العقاب؟

التحقيق في انفجار مرفأ بيروت لم ينتهِ بعد، لكنه عاد إلى مساره الطبيعي بعد سنوات من التعليق القسري. ومع اقتراب القاضي البيطار من إصدار قراره الاتهامي، تواجه الدولة اللبنانية اختبارًا حاسمًا: إما الذهاب إلى المحاسبة الفعلية، أو السقوط مجددًا في دوامة الإفلات من العقاب.

ومع أن الانفجار دمّر أحياءً في بيروت، إلا أن ما دمّره فعليًا هو ثقة اللبنانيين بمؤسساتهم. ولا يمكن إعادة بناء هذه الثقة إلا بحقيقة واضحة وعدالة مكتملة، مهما تأخرت، بعيدا عن التسيس والكيديات.

شاركها.
اترك تعليقاً