كنت أحضر ثيابي للرحيل من المنزل، هل سأصبح نازحة؟ وما العيب في ذلك؟ كنت أفكر، على الأقل كان ضميري سيرتاح إذا ما سألني الله يومًا “ماذا قدمتم لغزة؟”. مازحتني أختي وأنا أحضر الحقائب وأنا أفكر في جميع الناس الذين فاتتهم هذه الفرصة.

اعلان

 تعلمت من أبي أن أحب صور كما تعلمت أي شيء آخر. ربما بدأ الأمر معي عندما كان يناديني على عجل وأنا طفلة لأرى مشهدًا تلفزيونيًا تظهر فيه المدينة البحرية جمالها بشكل خافت وسط أجمل مدن لبنان.

غالبًا ما كان المنتجون يختارون في تقاريرهم لقطة جوية لصور يظهر فيها شاطئُها ونخيلها والكنائس والجوامع الملتصقة ببعضها. لكنني كنت أشعر أن ذلك المشهد أصبح كليشيه مستهلكا بشكل مفرط، لأننا ولأنها أكثر من ذلك بكثير. ثم حاولت أن أقنع نفسي لاحقًا أنهم كانوا يصرون على اللقطات الجوية لأن صور تبدو أجمل من السماء، ثم آمنت بتلك الفكرة بعد أن رحل أبي.

في كل مرة كان أبي يناديني لأجلس بقربه وأشاهد “لقطة صور” الجوية، تلك المدينة الهادئة التي لا تشبه بيروت أو البترون أو جبيل، أو أيًّا من مدن لبنان الأخرى. لا في شوارعها، ولا في رائحتها، ولا في طعامها، ولا في لكنة سكانها أو لغتهم المحكية. لم أكن “ألحق” اللقطة، وكنت أعزي نفسي وأعزيه برد جاهز: “بابا، ليش كل مرة بتعيطلي لشوفها عالتلفزيون؟ نحنا عايشين فيها”. كنت أحاول أن أعتذر له بطريقتي الجافة، وكان في كل مرة يقبل اعتذاري بضحكة طيبة.

تعلمت منه أن أقتفي أثر تلك المدينة التي تركتها لأول مرة في التاسع والعشرين من أيلول الماضي. كنت آخر من يغلق باب المنزل وأنا أنظر إلى صورته المعلقة فوق التلفاز. كان والدي يبتسم، وكنت أبكي وأنا أحاول أن أقول لنفسي إنني سأعود وأجد البيت في مكانه، سأجد مكتبي ومطبخي وشرفتي التي كلما جلست فيها كنت أتساءل: كيف لا يؤدب جيراننا أطفالهم؟ كذبةٌ ربما أو أمل زائف كنت أمنّي نفسي به حتى أنسى أنني رأيت لأول مرة، وأنا التي كنت طفلة أثناء حرب تموز 2006 التي لا أذكر منها شيئا، الصواريخ الإسرائيلية وهي تضيء ظلام الغرفة. عانقت لحظتها أبناء إخوتي وهم يرتجفون، وحاولت أن أهدئ من روعهم. لم أكن خائفة بصدق، كنت فقط أحاول أن أفهم ما الذي كان يجري ومن الذي قضى في هذه اللحظة التي يعبق فيها الدخان حيّنا الذي أصبح شبه مهجور. كنت أتساءل: هل رأى أبي من سمائه مكان سقوط الصواريخ في المدينة؟ هل سقطت في الخراب؟ أو على الميناء؟ أو في ساحة القسم؟ أو في الجبانة حيث يرقد الشهداء تحت خيمة تميّزهم دونًا عن سائر الموتى؟

خرجت بعدها بيوم لأتفقد الناس. كانت الشوارع شبه خالية، ولم تكن كذلك أبدًا. سرت في الطريق المقابل لمؤسسات الإمام موسى الصدر. مررت بجانب “الحارة” وفكرت أنني اكتشفت منذ مدة قصيرة أن بها مكتبة ضخمة يكسوها حجر رملي، لكنها كانت مقفلة. يومها رأيت صبيًا واقفًا على سطحها القرميدي، خشيت عليه أن يقع، لكنني كنت أعرف أنه ما كان لينزل لو طلبت منه مباشرة، هكذا هو عناد أهل الجنوب. ولا غرابة في ذلك. سألت ذاك الصبي: “متى تفتح المكتبة أبوابها؟” فقال باقتضاب: “لا أعرف”. مازحته: “مش عيب تكون عايش هون وما بتعرف؟” فقال بعد أن سمع لكنتي: “مش عيب عليكي إنتِ؟”. فضحكت، ثم نزل. لا أعرف ما الذي ذكرني بذلك الصبي الأسمر العنيد، ربما لأنني أعرف أنه لم يترك الحارة، كما أعرف أن في قلبي خواء يسع الكون، وأنه يسمع يوميًا أصوات الصواريخ والقذائف بشكل عشوائي، وأنه يعاني من آثار شحّ المواد الغذائية والوقود وكل مؤهلات الحياة بعد أن منع الجيش الإسرائيلي من التوجه جنوبًا. وربما لأن جملة الصبي لا تزال عالقة في ذهني حين قال لي: “مش عيب عليكي إنتِ؟””

مررت على الخيم البحرية، ربما كانت أكثر ما يعرفه السياح عن المدينة: البحر أو “بحُر” بضم الحاء كما يلفظه أهل صور، والسمك اللذيذ الذي بات يباع للمطاعم الفاخرة ولا يصلنا منه شيء، والانفتاح كما يُروّج في الإعلام، والصورة السنوية التي تظهر فيها المرأة المحجبة وهي تسير إلى جانب سيدة ترتدي “بكيني” على الشاطئ، هكذا دون أن تعاتب إحداهما الأخرى. هذا ما يعرفه الناس عنا، وهذا ليس كذبًا، لكن صور أكثر من ذلك بكثير. قلة من الناس تعرف، مثلًا، أننا لا نحب السمك بقدر ما نحب “الأرنبية”، لأنها وجبة تُحضَّر مرة في السنة بعد أن يُجمع من بساتين المدينة سبعة أنواع من الليمون، وتُحضر مرقة تُضفى على الكبب. نحبها لأننا نأكلها مرة، لأنها وجبة تختبر صبرنا، وصبرنا طويل والله يشهد…

كنت أحضر ثيابي للرحيل من المنزل، هل سأصبح نازحة؟ وما العيب في ذلك؟ كنت أفكر، على الأقل كان ضميري سيرتاح إذا ما سألني الله يومًا “ماذا قدمتم لغزة؟”. مازحتني أختي وأنا أحضر الحقائب وأنا أفكر في جميع الناس الذين فاتتهم هذه الفرصة.. “إلى أين؟” قالت، فأجبت: “رايحة كزدورة عالشارع البحري”. وضحكنا على سخرية الجملة وكل ما نعيشه. تُرى، كيف حال الشارع البحري؟ وما حال السيارات الفاخرة التي غالبًا ما “يفشخ” فيها الشبان على الصبايا وهم يسيرون ببطء في سياراتهم اللامعة؟ أين باتوا يجولون بالأغاني العالية والغريبة؟ و”التلوث السمعي” الذي أصبحنا نشتاقه؟ “الصائعون” يرفعون أغاني وديع الشيخ، و”العاشقون المكسورون” يَسمعون ويُسمعون أغاني هاني شاكر، و”المتدينون” أناشيد حزب الله واللطميات العاشورائية وللصبية الحق في أن تختار ما يناسبها..

هذا يومي الخامس “كنازحة”، أكتب عن المدينة ولا أشعر أنني دخلتها فعلًا، حتى وأنا أجبر نفسي عن التفكير فيما تعنيه صور لي، لأنها كانت نفسي، ولأنني تعلمت أن أحبها كما تعلمت أشياء أخرى. ولا زلت كلما فكرت فيها، أراها بلقطة جوية واسعة، أحاول تخيلها كما يتخيلها من رحلوا عنا، كما يراها أبي، كما يراها الله، ويحرسها من عليائه…

يورونيوز ليست مسؤولة عن أي من الآراء المعبر عنها في هذا النص، وجميع ما كُتب يعود لصاحبه.

شاركها.
اترك تعليقاً

2024 © السعودية خبر. جميع حقوق النشر محفوظة.