اعلان

إنّ الزخم المستجدّ حول هذا الملف لم يأتِ من فراغ، بل برز بالتوازي مع زيارة نائبة المبعوث الأمريكي إلى الشرق الأوسط، مورغان أورتاغوس مطلع نيسان/أبريل، والتي أكدت أنّ واشنطن تواصل الضغط من أجل التطبيق الكامل لقرار وقف الأعمال العدائية، بما في ذلك “نزع سلاح حزب الله”، معتبرة أنّ “هذا المسار يجب أن يُنفّذ دون تأخير”، علمًا أن الانتهاكات الإسرائيلية في جنوب لبنان ما زالت مستمرة حتى اليوم.

وبينما تُشير معطيات دبلوماسية إلى وجود قرار خارجي حاسم ببدء مرحلة تدريجية لسحب سلاح الحزب، تبدأ بجنوب نهر الليطاني قبل أن تشمل كامل الأراضي اللبنانية، تتجه الأنظار إلى موقف الدولة اللبنانية الرسمي، الذي بدأ يتبلور بشكل أكثر وضوحًا.

فقد أعلن الرئيس اللبناني جوزيف عون قبل أيام أنّ الدولة وحدها هي المخولة بامتلاك السلاح، مشدّدًا على “قناعته بأن اللبنانيين لا يريدون الحرب”، ومعلنًا أن “قرار حصر السلاح بيد الدولة قد اتُّخذ، ويبقى التنفيذ مرهونًا بظروفه الملائمة”.

في المقابل، كان موقف الحزب واضحًا لا لبس فيه. إذ اعتبر أمينه العام الشيخ نعيم قاسم أن فكرة نزع السلاح “يجب أن تُشطب من القاموس”، مشيرًا إلى أن “المقاومة هي رد فعل طبيعي على عجز الدولة عن حماية اللبنانيين” وفق تعبيره.

وأضاف خليفة نصرالله أن سلاح الحزب ليس مطروحًا للنقاش، باستثناء بند يتعلّق بالحوار حول “استراتيجية دفاعية وطنية” تُطرح فقط بعد انسحاب إسرائيل من الأراضي اللبنانية وبدء الدولة بإعادة إعمار ما دمرته الحرب. وقد ذهب القيادي في الحزب، محمود قماطي، إلى حد التهديد قائلاً إن “اليد التي ستمتد إلى سلاح المقاومة ستُقطع” حسب قوله.

ورغم حدّة التصريحات، فإن الاتصالات لم تنقطع بين حزب الله ومؤسسات الدولة، وعلى رأسها رئاسة الجمهورية، في محاولة لإعادة إطلاق مسار التفاوض حول الاستراتيجية الدفاعية، كمدخل للحل السياسي لهذا الملف.

وفي هذا السياق المتأزّم، حيث تتقاطع الاعتبارات السيادية مع التحولات الإقليمية والدولية، وحيث تتكثف الضغوط ويتسارع التصعيد في الخطاب، تبرز تساؤلات حول موقع شيعة لبنان من هذا النقاش. فهل لا يزال السلاح بالنسبة لأبناء هذه الطائفة عنصر حماية، أم بات عبئًا يثقل كاهل البيئة الحاضنة للحزب ويعوق استقرار لبنان؟

في محاولة لفهم هذا الانقسام، أجرت “يورونيوز” مقابلات مع عدد من أبناء الطائفة الشيعية في لبنان لاستطلاع آرائهم حول مسألة نزع سلاح حزب الله تحديدًا، إلى جانب مقابلة مع خبير في الشؤون العربية والإقليمية لاستشراف السيناريوهات المحتملة التي قد تؤول إليها الأمور.

سلاح الحزب: حماية أم عبء؟

رصدنا، من خلال المقابلات، تباينًا في الآراء، بين من لا يزال يرى في السلاح ضمانة أساسية للأمن القومي، وبين من يعتبره عبئًا بات يفوق قدرة الناس على الاحتمال، وإن كان المعارضون يفضّلون عدم الكشف عن هوياتهم، إما خشيةً من ردود الفعل أو تجنبًا لأي تداعيات محتملة.

يقول حسن (اسم مستعار)، من قرى جنوب لبنان، إنه لا يعارض مبدئيًا نزع سلاح حزب الله، لكنّه يرفض أن يتمّ بالطريقة التي طُرح بها عبر الإعلام أو تحت الضغط الدولي. ويضيف في حديثه لـ”يورونيوز”: “أنا مع الحوار القائم بين رئيس الجمهورية وحزب الله لدراسة هذه المسألة الوجودية. السلاح يجب أن يكون بيد الدولة، لكن لا بد من الاستفادة من خبرات الحزب العسكرية، خاصة أبناء القرى الحدودية، لأنهم يعرفون الأرض ويملكون تجربة مهمة. الجيش يمكنه أن يستفيد من ذلك، شرط أن يكون ولاء الجميع للبنان وليس لإيران”.

ويتابع حسن: “غياب الدولة هو ما دفع أبناء الجنوب لحمل السلاح في وجه إسرائيل. المطلوب اليوم أن تكون الدولة حاضرة فعلاً في المناطق الحدودية، لتنتفي الحاجة لأي سلاح خارج إطارها. أنا مع تسليم الحزب لسلاحه، لكن بشكل تدريجي وعقلاني، وليس بالاستفزاز”.

أما هادي (اسم مستعار)، وهو من إحدى البلدات الجنوبية التي تعرضت للقصف في الحرب الأخيرة، فيعبّر عن شعور بالغ بالإحباط، ويقول: “فقد الناس ثقتهم بالسلاح كوسيلة حماية. ففي الحرب الأخيرة على لبنان، بدا واضحًا تفوق إسرائيل الكبير، ليس فقط على مستوى القدرات. السلاح لم يستطع أن يحمينا، ولم نعد نشعر بالأمان. الخسائر كانت فادحة، والقرار اتُّخذ بشكل أحادي من دون الرجوع إلى الدولة، لنجد أنفسنا، نحن أبناء الجنوب، في واجهة النار مرة جديدة”.

ويتابع: “المطلب بات واضحًا: أن يكون السلاح في يد الجيش اللبناني وحده. كفى حروبًا. حتى أولئك الذين يعارضون استمرار هذا السلاح، نادرًا ما يعبّرون عن آرائهم علنًا، إما خوفًا من ردود الفعل أو لأنهم، على نحو لا واعٍ، باتوا مقتنعين بأنه لا مفر من هذا الواقع. لكننا تعبنا… ونستحق أن نمنح أنفسنا فرصة لتجربة خيار مختلف”.

ويختم بالقول: “ما الذي يمنعنا من أن نثق بجيشنا الوطني؟ الجيش اللبناني أثبت، مرارًا، أنه الجهة الوحيدة القادرة على حماية الجميع دون تمييز. وأستنكر كل المحاولات التي تصوّره وكأنه خصم لأبناء الجنوب، بينما الحقيقة أن عناصره هم من بادروا، حتى في أصعب اللحظات، إلى المساعدة ورفع الأنقاض ونقل الجرحى”.

في المقابل، تُصرّ كوثر ياسين، من منطقة البقاع، على أن سلاح حزب الله ليس سلاحًا طائفيًا، بل ركيزة وطنية. وتقول: “يكفي أن نتذكر ما جرى في مطار بيروت عام 1982، حين أحرقت إسرائيل أسطولنا الجوي ولم تُطلق الدولة رصاصة واحدة. لم يكن سلاح المقاومة موجودًا آنذاك، وكانت الدولة مغلولة اليدين. أما اليوم، فإن هذا السلاح بات خط الدفاع الأخير عن الوطن، وهو لا يناقض منطق الدولة بل يكمل دورها حيث تفشل السياسة ويسقط الردع” حسب تعبيرها.

اعلان

وتعتبر كوثر أن “سلاح حزب الله ليس سلاحًا لحماية طائفة بعينها، بل درعٌ لجميع اللبنانيين، بمختلف طوائفهم ومناطقهم، لأن العدو لا يفرّق بين مذهب ومذهب، ولا بين جنوب وبقاع وشمال. ولولا هذا السلاح، لما اكتفت إسرائيل بالنقاط الخمس، بل لاحتلّت لبنان بأكمله، ولأُعيد رسم حدوده على مقاس أطماعها التاريخية”.

من جهتها، ترفض ميساء عطوي، من جنوب لبنان، بشكل قاطع طرح فكرة نزع السلاح، لأن ذلك من شأنه “أن يصب في مصلحة العدو ويستهدف تمزيق الجبهة الداخلية وإشعال فتنة لا تُحمد عقباها”، وتُضيف: “هذا السلاح  الذي حمى لبنان وواجه العدوان لا يمكن التفريط به أو تسليمه تحت ضغط  سياسي. فأرضنا لا يحميها سوى سلاح حزب الله وسلاحه خط أحمر”.

وتقول: “هذا السلاح لم يكن يوماً مشروع حرب أهلية بل موقعه الطبيعي مواجهة العدو الإسرائيلي في الوقت الذي لا يوجد قدرة عسكرية كافية لدى الجيش اللبناني للدفاع عن الجنوب”.

واعتبرت ميساء أنه “لا يمكن التعامل مع مسألة نزع سلاح المقاومة كخيار عابر أو قرار إداري بسيط. انما هي قضية ترتبط بكرامة وطن وبقاء شعب وسيادة أرض، فالمسألة ليست نزع سلاح بل نزع أرواح كل من تجرأ على حمل السلاح دفاعاً عن الأرض والعرض. ولولا وجود سلاح حزب الله لكانت التنظيمات الإرهابية وعلى رأسها داعش قد اجتاحت بيوتنا واستباحت أحياءنا” حسب قولها.

اعلان

رؤية تحليلية: لا تسليم للسلاح دون ضمانات

يشرح الصحافي اللبناني المتخصص في الشؤون العربية والإقليمية، أمين قمورية، تعقيدات ملف سلاح حزب الله، ويؤكد أن الحزب، من حيث المبدأ، لا يعارض مفهوم حصر السلاح بيد الدولة اللبنانية. ويستند في ذلك إلى أمرين أساسيين: أولاً، موافقة حزب الله على القرار 1701، الذي ينص صراحة على سحب السلاح من جنوب نهر الليطاني وتسليمه لمؤسسات الدولة؛ وثانيًا، إعلان الحزب في أكثر من خطاب التزامه بسقف اتفاق الطائف، بما يعني نظريًا أنه لا سلاح خارج إطار الدولة.

ويقول قمورية إن “هناك تعاونًا كبيرًا قائمًا بالفعل بين الحزب والجيش اللبناني“، مشيرًا إلى أن ما يجري الآن هو محاولة لربط هذا الملف بعملية انسحاب إسرائيل من الأراضي اللبنانية.

ويضيف: “ثمة فارق جوهري بين مفهوم “نزع السلاح” بالقوة، وهو ما يرفضه الحزب والدولة، وبين مفهوم “حصرية السلاح بيد الدولة”، وهو هدف مشترك لكن تطبيقه يحتاج إلى مسار سياسي. ويشدد على أن الجيش اللبناني، في كل الأحوال، “لن يكون أداة لنزع سلاح حزب الله بالقوة، ولا يبدو أن أحدًا في الداخل اللبناني بصدد الذهاب إلى هذه المواجهة”.

ويقرّ قمورية بأن الرئيس اللبناني يواجه ضغوطًا أمريكية كبيرة تدفعه لتسريع هذا المسار، إلا أن موقفه يقوم على موازنة دقيقة بين الضغط الخارجي وتجنّب الانزلاق نحو مواجهة داخلية. ويضيف: “الرئيس محرج، لكنه لا يقبل أن يدخل البلد في معركة جديدة”.

اعلان

وفي خلفية هذا المشهد، يشير قمورية إلى أن الدور الإيراني لا يزال حاضرًا بقوة، ويصعب فصل ملف سلاح الحزب عن مسار التفاوض الإيراني مع القوى الغربية. “إيران لا تزال لاعبًا أساسيًا وتمتلك أوراقًا عديدة، ومن الواضح أن الحزب لن يوافق على تسليم سلاحه أو إعادة هيكلته دون ضمانات متكاملة”، يقول قمورية.

ويشرح أن هذه الضمانات قد تشمل: انسحابًا إسرائيليًا كاملاً، عدم المساس بالموارد المالية التابعة للحزب، وإعادة إعمار ما دمرته الحروب، سواء في الجنوب أو الضاحية الجنوبية لبيروت. ويُضيف: “إذا أردت أن تأخذ السلاح، فعليك أن تعطي في المقابل. هذه هي المعادلة التي يطرحها الحزب”.

السيناريوهات المحتملة: بين الضغوط وتجنّب الانفجار

حول السيناريوهات التي قد تتشكل في المرحلة المقبلة، لا يستبعد قمورية أي احتمال. فالمشهد برأيه مفتوح على عدة احتمالات متداخلة:

1. تصعيد عسكري مع إسرائيل: يضع قمورية احتمال أن تلجأ إسرائيل إلى عمليات إنزال في بعض المناطق الجنوبية تحت ذريعة تطبيق القرار 1701 بالقوة، في حال اعتبرت أن الدولة اللبنانية فشلت في تنفيذه.

اعلان

2. تصاعد الضغوط الأمريكية على بيروت: يشير قمورية إلى استمرار واشنطن في الضغط على مؤسسات الدولة، ما قد يدفع بعض الخصوم السياسيين للتحريض باتجاه تصعيد داخلي. لكنه في الوقت نفسه يرى أن معظم اللبنانيين باتوا يدركون أن العودة إلى الحرب الأهلية ليست خيارًا واقعيًا. ويُضيف: “رغم الضربات الكبيرة التي تلقاها، لا يزال حزب الله أكبر قوة سياسية وعسكرية في لبنان. لا أعتقد أن أحدًا مستعدٌ لمواجهته عسكريًا من الداخل”.

3. الرهان على الوقت: يعتبر قمورية أن حزب الله، ومعه إيران، يتقنان اللعب على عامل الوقت. وربما يعوّل الحزب في هذه المرحلة على المراوحة وتبدل الظروف الإقليمية والدولية لمصلحته، وهو تكتيك استخدمه أكثر من مرة في مراحل سياسية مفصلية.

ويختم قمورية تحليله بتسليط الضوء على ما يعتبره جوهر المعضلة: “إسرائيل لا تريد دولة لبنانية قوية، ولا جيشًا قويًا، ولا حدودًا واضحة. هي تزرع الفتائل ثم تراقب عن بُعد” وفق قوله.

شاركها.
اترك تعليقاً

2025 © السعودية خبر. جميع حقوق النشر محفوظة.