اعلان
تمتد خريطة عصابات المدن في العالم العربي من أحياء الجزائر الخطيرة إلى مناطق تونس العشوائية، مروراً بشوارع القاهرة المزدحمة وصولاً إلى المناطق الحدودية بين لبنان وسوريا، مطورّةً أساليبها من سرقات تقليدية إلى جرائم منظمة،بما في ذلك الاتجار بالمخدرات بأنواعها، مستفيدةً بذلك من الثغرات الأمنية والظروف الاجتماعية والاقتصادية المتدهورة.
الجزائر.. سيوف العصور الوسطى في القرن الواحد والعشرين
تشهد المدن الجزائرية موجةً مرعبة من عنف العصابات التي أعادت السيوفَ من متاحف التاريخ إلى شوارع البلاد. وتحولت الأحياء السكنية إلى ساحات صراع دامية، يتبارز فيها شبابٌ مدججون بالسيوف، وهو ما دعا البعض إلى التساؤل: كيف تُصنع هذه الأسلحة البدائية في هذا العصر؟ ومن يزود العصابات بها؟
وتكشف مقاطع فيديو التعذيب والخطف المتداولة عن تحول في طبيعة الجريمة المنظمة، من السرقة إلى إشاعة الرعب كغاية في ذاتها على غرار حادثة بواسماعيل التي وثقت اعتداء جسديا وجنسيا وحشيا على شاب.
والحوادث لم تقتصر على بواسماعيل، بل امتدت إلى مناطق أخرى مثل الشلف، حيث تم تسجيل جرائم مماثلة، بينها قتل طفل والتنكيل بجثته.
وفي ذات السياق، تتفشّى ظاهرة المخدرات في المجتمع الجزائري، حيث تحول البؤس الاجتماعي والاقتصادي إلى وقود لهذا الانتشار. فبين الأزقة الضيقة والمباني المهجورة، تنتشر شبكات بيع المخدرات وتجتذب شباناً تائهين بين بطالة مقنعة ويأس متصاعد.
كما لم تعد المخدرات حكراً على الأنواع التقليدية، بل اجتاحت البلادَ أنواع عدة منها. وتتوالى تقارير الأجهزة الأمنية كاشفة عن عمليات ضبط جديدة لمخدرات متنوعة، كان أبرزها ضبط 55 كيلوغراماً من الكوكايين النقي في الأغواط خلال الأسبوع الماضي.
تونس.. وباء العنف يفتك بالبيوت والأحياء
تشير بيانات غير رسمية إلى تسجيل 1.92 جريمة قتل عمد لكل 100 ألف ساكن خلال 2025، مقابل نسبة أقل في 2024. وأصبحت بعض الأحياء الشعبية في العاصمة تونس ملاذًا للعنف والجريمة، حيث تسود المخدرات التي تتزايد معدلات انتشارها خاصة بين فئة الشباب والمراهقين. كما تنتشر ظاهرة السلاح الأبيض والاعتداء على المارة.
وفي مشاهد تتكرر بشكل شبه يومي، تتحول عربات المترو والحافلات إلى أهداف للعابثين والمخربين الذين لا يترددون في تحطيم النوافذ والمقاعد ومرافق الخدمة سواء بهدف السرقة أو بدوافع عبثية محضة.
ولا تأتي هذه الموجة المرعبة من فراغ، فالأحياء التي تنتشر فيها هذه العصابات هي نفسها التي تعاني لعقود من طاحونة الفقر والبطالة، حيث يعيش آلاف الشباب في دائرة اليأس والإحباط، وهي التربة الخصبة ذاتها التي شهدت، في أعقاب ثورة 2011، تنامي الفكر المتشدد وتكوّن الخلايا الجهادية.
مصر: خرائط الدم تمتد من الصعيد إلى الدلتا
لم تكن مشاجرة الخانكة الدامية التي راح ضحيتها جزار، ولا جريمة الأقصر المروعة التي تجول فيها القاتل برأس ضحيته، سوى غيض من فيض. فخريطة الجرائم تمتد من الإسماعيلية حيث قتل أب طفله بالكهرباء، إلى الفيوم حيث أقدم مدمن على ذبح أسرته، وصولاً إلى أسيوط حيث ذُبحت طفلة في الثالثة من عمرها.
ولا تقتصر هذه الحوادث على الأفراد، بل امتدت لتشمل جماعات تمارس العنف بشكل منظم داخل أحياء معينة. ففي حادثة محلية بالجيزة، ألقت الأجهزة الأمنية القبض على شخصين من منادي السيارات، مقيمين بدائرة قسم شرطة إمبابة، لممارستهم البلطجة وفرض الإتاوات على الباعة المتجولين، بعد أن اعتديا على أحدهم وأصابوه بالسلاح الأبيض بسبب رفضه دفع الإتاوة.
ووثّق مقطع فيديو اندلاع مشاجرة جماعية في منطقة الخانكة بمحافظة القليوبية، استخدم خلالها السيوف والعصي، وشارك فيها رجال ونساء، فيما ظهرت الدماء على ملابسهم.
ومن جهة أخرى، أحدث انتشار مخدر “الشابو” (الميثامفيتامين) موجة جديدة من الجرائم، حيث وثقت مصر سلسلة حوادث قتل بشعة في محافظات مثل الأقصر، الإسماعيلية، قنا، الفيوم وأسيوط، ارتكبها متعاطون للمخدر، شملت ذبح وقطع رؤوس. ويتميز مخدر الشابو بسرعة إدمانه وتأثيره النفسي الخطير، بما في ذلك الهلوسات والاضطرابات النفسية والعدوانية المفرطة.
المغرب.. من الإجرام المحلي إلى شبكات عابرة للحدود
تتجاوز عصابات المدن المغربية النشاط الإجرامي التقليدي، حيث توسعت هذه الشبكات لتشمل مناطق حضرية جديدة واعتمدت أساليب أكثر خطورة. ولم تعد ممارساتها تقتصر على فرض الإتاوات والسرقات، بل امتدت لتشمل الابتزاز المنظم عبر الإنترنت، وتزوير الوثائق، وغسيل الأموال عبر مشاريع وهمية.
كما بدأت هذه العصابات تتشابك مع شبكات الجريمة العابرة للحدود، حيث تشير تقارير أمنية إلى تعاونها مع مهربين دوليين في تجارة المخدرات، مما يمنحها إمكانات لوجستية وتقنية متقدمة.
ورغم الحملات الأمنية المتواصلة، إلا أن الظاهرة تواصل تفاقمها.
لبنان وسوريا.. الخطف مقابل الفدية
تتزايد جرائم الخطف وطلب الفدية في لبنان وسوريا، حيث تنشط عصابات في المناطق الحدودية تستدرج الضحايا عبر مكاتب سفر وهمية وصفحات على الإنترنت، قبل نقلهم إلى مناطق بعيدة عن سيطرة الدولة.
وتمكن العشريني اللبناني حسن عطوي من النجاة بصعوبة بعد أن احتجزته عصابة في بعلبك وسوريا وطلبت فدية قدرها 27 ألف دولار، قبل الإفراج عنه مقابل 6 آلاف دولار بعد مفاوضات مع الجيش اللبناني.
وتشير بيانات المديرية العامة للأمن الداخلي إلى ارتفاع حالات الخطف من 17 عام 2021 إلى 50 عام 2022، مع أغلب الضحايا من السوريين والأجانب. وتعتمد العصابات أساليب متنوعة تشمل استدراج الراغبين بالهجرة أو شراء سيارات بأسعار منخفضة، إضافة إلى انتحال صفة أمنية للتحايل على الضحايا.
وتؤكد المصادر أن ضعف الدولة وغياب السيطرة على الحدود يسهمان في انتشار هذه الجرائم، فيما تحرص بعض العائلات على عدم الإبلاغ خوفاً من التهديدات. وتوضح الحالات المسجلة أن العصابات تتقاضى مبالغ مالية كبيرة مقابل الإفراج عن المخطوفين، وتستمر بعض العمليات حتى بعد دفع الفدية.
لماذا تنتشر هذه الظاهرة؟
في تصريح لـ”يورونيوز”، أوضح المختص في علم الاجتماع ماهز الزغلامي أن ظاهرة العصابات في المدن تعكس العنف الكامن في المجتمع. وأشار إلى أن المشكلة لا تقتصر على الجرائم التقليدية، بل تشمل ظهور عصابات صغيرة نتيجة تراكم مشاكل اجتماعية متعددة، مثل الفقر، التهميش، ضعف الانتماء للمجتمع، وانعدام السرديات الثقافية التي تعطي الأفراد شعورًا بالهوية والمعنى.
وأضاف أن غياب هذه القيم لا يؤدي فقط إلى تشكيل عصابات، بل يفتح الباب لأشكال أخرى من العنف المنظم التي تهدد السلم الأهلي، مثل التطرف الديني العنيف الذي شهدته تونس بين 2011 و2016. ومع تراجع هذا النوع من العنف، ظهرت أشكال جديدة تعتمد على نفس الظروف الاجتماعية، أبرزها انتشار المخدرات وتأثيرها على تراجع القيم الاجتماعية وتحفيز العنف المستمر.
وأكد أن الاعتماد على القوة الأمنية فقط لا يحل المشكلة، إذ لا يمكن للصرامة الأمنية وحدها معالجة جذور العنف. موضحا أن الحل يكمن في سياسات شاملة اجتماعية وثقافية واندماجية، تعيد بناء الثقة بين الأفراد والدولة، وتقوي الروابط الاجتماعية، وتمنع تحول الإحباط الاجتماعي إلى عنف منظم يهدد استقرار المدن والأحياء.