في ظل تصاعد التوترات الجيوسياسية العالمية، شهدت صناعة الأسلحة نموًا غير مسبوق، حيث بلغت عائدات المبيعات مستويات قياسية في عام 2024. هذا الارتفاع يعكس واقعًا معقدًا يتجاوز مجرد الأرقام، ليشمل تحديات تتعلق بسلاسل الإمداد، وجهود إعادة التسلح، وتأثير الصراعات الإقليمية. يهدف هذا المقال إلى تحليل هذه التطورات، مع التركيز على الدور المحوري للشركات الأوروبية والأمريكية، والتحديات التي تواجهها في ظل هذه الظروف المتغيرة.

ارتفاع قياسي في عائدات مبيعات الأسلحة العالمية

سجل معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI) ارتفاعًا بنسبة 5.9% في إجمالي عائدات مبيعات الأسلحة والخدمات العسكرية لأكبر شركات السلاح في العالم، لتصل إلى 679 مليار دولار (583 مليار يورو) في عام 2024. هذا الرقم يمثل أعلى مستوى تم تسجيله على الإطلاق، مما يؤكد على التوجه المتزايد نحو الإنفاق العسكري في مختلف أنحاء العالم. الطلب المتزايد على الأسلحة يأتي مدفوعًا بشكل أساسي بالصراعات القائمة، مثل الحرب في أوكرانيا، والتوترات المتصاعدة في مناطق أخرى، بالإضافة إلى برامج التحديث العسكري الطموحة التي تتبناها العديد من الدول.

هيمنة الشركات الأوروبية والأمريكية على السوق

يعزى هذا الارتفاع الكبير في إيرادات صناعة الأسلحة بشكل رئيسي إلى الزيادات التي حققتها الشركات العاملة في أوروبا والولايات المتحدة. فقد شهدت الشركات الأوروبية نموًا ملحوظًا، حيث حققت 26 شركة مدرجة ضمن أكبر 100 شركة نموًا في إجمالي إيراداتها بنسبة 13.4%، لتصل إلى 151 مليار دولار.

التشيك تتصدر النمو بفضل أوكرانيا

تبرز شركة تشيكوسلوفاك التشيكية كأكثر الشركات تحقيقًا للنمو من حيث النسبة المئوية، حيث ارتفعت إيراداتها بنسبة مذهلة بلغت 193% لتصل إلى 3.6 مليار دولار. يعود هذا النمو بشكل كبير إلى مبادرة الذخيرة التشيكية، وهي مشروع حكومي يهدف إلى توفير قذائف المدفعية لأوكرانيا. في الواقع، أكثر من نصف إيرادات الشركة في عام 2024 كانت مرتبطة مباشرة بالطلب الأوكراني.

فرنسا وإيطاليا تساهمان في الزيادة

كما شهدت الشركات الفرنسية نموًا قويًا، حيث بلغت إيرادات الأسلحة للشركات الأربع المدرجة ضمن القائمة 26.1 مليار دولار، بزيادة قدرها 12% مقارنة بعام 2023. وشهدت شركات تاليس وسافران وداسو نموًا مضاعفًا في عائدات الأسلحة. وفي الربع الأول من عام 2025، حققت تاليس نموًا في إجمالي مبيعاتها بلغ 5 مليارات يورو، بزيادة نسبتها 9.9% مقارنة بالفترة نفسها من عام 2024. أما الشركات الإيطالية، فقد ارتفعت إيراداتها بنسبة 9.1% لتصل إلى 16.8 مليار دولار في عام 2024. شركة ليوناردو، ثاني أكبر شركة أسلحة أوروبية، رفعت إيراداتها بنسبة 10% لتصل إلى 13.8 مليار دولار، وأسست مشروعًا مشتركًا مع شركة راينميتال الألمانية لتطوير أنظمة عسكرية جديدة.

ألمانيا تزيد من إنتاجها العسكري

شهدت الشركات الألمانية الأربع المدرجة ضمن أفضل 100 شركة زيادة جماعية في إيراداتها من الأسلحة بنسبة 36% لتصل إلى 14.9 مليار دولار. شركة Diehl الألمانية سجلت أكبر زيادة سنوية في إيرادات الأسلحة، حيث ارتفعت بنسبة 53% لتصل إلى 2.1 مليار دولار، وذلك بفضل تسليمها معدات لدعم أوكرانيا، بما في ذلك أنظمة الدفاع الجوي. هذا يشير إلى تحول ملحوظ في السياسة الدفاعية الألمانية، وزيادة تركيزها على تعزيز قدراتها العسكرية.

هشاشة سلاسل الإمداد: تحدي يواجه صناعة الأسلحة

على الرغم من النمو القوي في عائدات صناعة الأسلحة، إلا أن هناك تحديًا كبيرًا يواجه الشركات الأوروبية، وهو هشاشة سلاسل الإمداد. تعتمد القارة بشكل كبير على مواد خام حيوية مثل الكوبالت والليثيوم، مما يجعلها عرضة للتقلبات الجيوسياسية وتقلبات الأسعار، بالإضافة إلى مخاطر النقص المحتمل. فقد اضطرت شركات مثل إيرباص وسافران إلى البحث عن موردين جدد للتيتانيوم بعد عام 2022، بعد أن كانت تعتمد بشكل كبير على الواردات الروسية.

جهود الاتحاد الأوروبي لتعزيز الاستقلالية

يدرك الاتحاد الأوروبي خطورة هذا الوضع، وقد أطلق خطة عمل جديدة تهدف إلى خفض مستوى الاعتماد على المواد الخام الحيوية بنسبة تصل إلى 50% بحلول عام 2029. تشمل هذه الخطة الاستثمار في استخراج المعادن محليًا، مثل مشروع شركة فولكان لاستخراج الليثيوم في ألمانيا، ومشروع مالمبدينوم مالمبجيرج التابع لشركة جرينلاند ريسورسز. بالإضافة إلى ذلك، يخطط الاتحاد الأوروبي لإقامة شراكات استثمارية مع أوكرانيا ودول غرب البلقان وشرق وجنوب المتوسط، بهدف بناء سلاسل إمداد متكاملة للمواد الخام. هذه الجهود تهدف إلى تعزيز استقلالية صناعة الأسلحة الأوروبية، وضمان قدرتها على تلبية الطلب المتزايد في المستقبل.

مستقبل صناعة الأسلحة: نظرة عامة

بشكل عام، تشير التوقعات إلى استمرار نمو صناعة الأسلحة في السنوات القادمة، مدفوعًا بالتوترات الجيوسياسية المستمرة، وزيادة الإنفاق العسكري، والحاجة إلى تحديث الأنظمة العسكرية. ومع ذلك، فإن التحديات المتعلقة بسلاسل الإمداد، والاعتماد على المواد الخام، والتقلبات الاقتصادية، قد تؤثر على هذا النمو. ستحتاج الشركات العاملة في هذا المجال إلى التكيف مع هذه التحديات، والاستثمار في الابتكار، وتعزيز التعاون الدولي، لضمان استدامتها وقدرتها على المنافسة في المستقبل. الاستثمار في البحث والتطوير، وتنويع مصادر الإمداد، وبناء شراكات استراتيجية، ستكون عوامل حاسمة في تحديد مستقبل هذه الصناعة الحيوية.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version