لا تزال العلاقة بين الجزائر وفرنسا أسيرة ماضٍ وجُرْح “لم يلتئم بعد”. حيث يستمر تأثير اتفاقيات إيفيان لعام 1962، التي أنهت رسميًا فترة ستعمار الفرنسي، في تشكيل مسار العلاقات بين البلدين. ولا يزال التاريخ المثقل بالأحداث يؤثر على الحاضر ويرسم ملامح السياسة الخارجية بين باريس والمستعمرة السابقة خاصة في ملفّي الهجرة والذاكرة المشتركة.
جراح لم تندمل بين الجزائر وفرنسا
تميّزت الجزائر عن كلٍّ من تونس والمغرب اللتين خضعتا لنظام الحماية، إذ جرى ضمّها رسميًا إلى الأراضي الفرنسية، ما أدّى إلى استيطان أوروبي كثيف جعل وضعها الاستعماري مختلفًا عن باقي المستعمرات الفرنسية في إفريقيا، وفق ما يوضّحه الباحث في التاريخ مهدي حسحوس لـ”يورونيوز”.
وشكّلت ثورة الفاتح من نوفمبر/تشرين الثاني 1954 لحظة فارقة في تاريخ الجزائر، إذ كانت إيذانًا ببدء العدّ العكسي للوجود الفرنسي بعد احتلال دام أكثر من 132 عامًا. وكانت هذه الثورة بمثابة “ضربة لآخر معاقل باريس في شمال إفريقيا”، وهي التي لم تكد تفيق من صدمة هزيمة معركة ديان بيان في مايو/ أيار 1954 والتي أنهت الاستعمار الفرنسي لفيتنام، حسب الباحث.
وقد أسفرت تلك الحرب الدموية عن مقتل أكثر من مليون ونصف مليون جزائري بحسب الأرقام الرسمية الجزائرية. لكن الإحصاءات الفرنسية تتحدث عن مقتل ما بين 300 ألف و400 ألف جزائري في سبع سنوات.
أما الخسائر العسكرية التي تكبدتها باريس في نفس الفترة، فقد بلغت 25 ألف جندي قتيل و65 ألف جريح و485 مفقودا. وقد بلغ عدد القتلى المدنيين الفرنسيين 2788 شخصا و7541 جريحا و875 مفقودا.
ويقول المختص في الشؤون المغاربية نزار مقني في حديثه لـ”يورونيوز” ، إنه حين وُقّعت اتفاقيات إيفيان في مارس/آذار 1962، خُيّل للجزائريين والفرنسيين أنّ صفحة جديدة فُتحت، غير أنّ تلك الصفحة ظلّت محمّلة ببقايا الماضي.
فالاتفاقيات التي نظّمت مرحلة ما بعد الحرب نصّت على حرية التنقل، وضمان حقوق المِلكية للفرنسيين المقيمين في الجزائر، وتنظيم حركة الهجرة نحو فرنسا، لكنها سرعان ما تحوّلت إلى منطلقٍ لتوتّراتٍ دائمة غذّتها “الذاكرة الجريحة والعلاقات غير المتكافئة بين الطرفين” وفق تعبيره.
من إيفيان 1962 إلى اتفاق 1968.. علاقة متقلّبة
في 27 ديسمبر 1968، وُقّع اتفاق الهجرة بين الجزائر وفرنسا، الذي شكّل امتدادًا عمليًا لروح اتفاقية إيفيان، وكان يُفترض أن يكرّس التعاون بين البلدين، إذ نصّ على تسهيلات خاصة لإقامة الجزائريين في فرنسا، وفتح الباب أمام اليد العاملة الجزائرية للمشاركة في النهضة الصناعية الفرنسية فيما يُسمّى بفترة “الثلاثين المجيدة”.
وفي تلك السنوات، كانت باريس بحاجة للعمال لإتمام مشاريعها الصناعية وبنيتها التحتية من مصانع وطرق وسكك حديدية. وعبر آلاف الجزائريين البحر الأبيض المتوسط، ليكونوا جزءًا من بناء فرنسا الحديثة.
لكن، وفقًا لتوصيف الخبير نزار مقني، تغيّرت الصورة تمامًا منذ السبعينيات. وتحوّلت الهجرة من ضرورة اقتصادية إلى مصدر توتر سياسي واجتماعي، مع تصاعد خطاب أقصى اليمين الذي صوّر المهاجر الجزائري كرمز للخطر على النسيج الديمغرافي لفرنسا.
وفي ظل تعديلات متكررة على الاتفاق في أعوام 1985 و1994 و2001، بدأ الاتفاق يفقد تدريجيًا محتواه الأصلي.
الذاكرة وعبء الحقبة الاستعمارية
يؤكد المختص في الشؤون المغاربية لـ”يورونيوز” أن العلاقة بين الجزائر وفرنسا ظلت محكومة بفترة استعمارية معقدة. ففرنسا تركت وراءها إرثًا ثقيلا من أحداث عنف دموية مثل “مجازر سطيف وقالمة وخراطة في 8 مايو أيار 1945، ( 45 ألف جزائري وفق االجزائر وما بين 1500 و20 ألف حسب الأرقام الفرنسية)، وأيضا معسكرات التعذيب والإعدامات الجماعية خلال الثورة الجزائرية” وفق المتحدث.
ومن جانبها، ما زالت الجزائر تعتبر أن فرنسا لم تقدم اعتذارًا رسميًا عما فعلته في الجزائر، رغم مبادرات من رؤساء فرنسيين مثل جاك شيراك وفرانسوا هولاند وإيمانويل ماكرون.
ويضيف مقني أن مع كل أزمة سياسية أو خلاف دبلوماسي، تعود معضلة الذاكرة لتطفو على السطح، سواء من خلال تصريحات سياسية نارية أو إجراءات مثل تخفيض منح التأشيرات للجزائريين، آخرها إلغاء اتفاق الإعفاء المتبادل من التأشيرات لحاملي جوازات السفر الدبلوماسية والجوازات الخاصة.
الهجرة والصحراء الغربية.. خلافات تعمّق التوتر
تتهم باريس الجزائر برفض استعادة رعاياها من المهاجرين غير الشرعيين والذين صدرت بحقهم أوامر بمغادرة الأراضي الفرنسية.
وتكشف أرقام الداخلية الفرنسية أن “حوالي نصف المهاجرين الموجودين في مراكز الاحتجاز الإداري بفرنسا هم من الجزائريين”، مشددة على ضرورة استئناف القنصليات إصدار التراخيص التي تتيح ترحيلهم إلى بلدهم الأصلي.
وتُعدّ الجالية الجزائرية الأكبر عددًا في فرنسا، فيما يتصدر الجزائريون قائمة الموقوفين في قضايا الإقامة غير النظامية بأكثر من 33 ألف شخص عام 2024، وفق بيانات وزارة الداخلية الفرنسية.
وقد تعمّقت الخلافات السياسية بين البلدين، خصوصًا بعد إعلان باريس دعمها العلني لمقترح الحكم الذاتي المغربي في الصحراء الغربية، وهو ما اعتبرته الجزائر انحيازًا واضحًا للموقف المغربي، ما زاد من حدة التوتر وأدخل العلاقات الثنائية في مرحلة من الجمود.
البرلمان الفرنسي.. عودة اليمين إلى خطاب ما قبل إيفيان
في 30 أكتوبر/تشرين الأول 2025، فجّر تصويت الجمعية الوطنية الفرنسية ضد اتفاق 1968 موجة غضب بعد أن دعم نواب من اليمين الجمهوري وحزب آفاق المقترح الذي تقدّم به اليمين المتطرف لإدانة الاتفاق.
ووصفت مارين لوبن نتيجة التصويت بـ”الانتصار الرمزي الكبير”، معتبرة أن البرلمان “عبّر عن إرادة فرنسية صريحة لإعادة النظر في العلاقة مع الجزائر”.
وفي المقابل، رأى اليسار في التصويت “نقطة انكسار خطيرة”، إذ قال أوليفييه فور، السكرتير الأول للحزب الاشتراكي، إنّ “اليمين الجمهوري انضمّ إلى اليمين المتطرف في التصويت ضد اتفاق رمزي من تاريخ العلاقات الثنائية”.
أما رئيسة كتلة “فرنسا الأبية” في البرلمان ماتيلد بانو فاعتبرت النص “عنصريًا “، فيما لمّحت نائبة حزب الخضر سيرييل شاتلين إلى أن غياب رئيس الوزراء غابرييل أتال عن الجلسة هو الذي منح اليمين المتطرف “أول انتصار تشريعي رمزي”.
اللافت هو التوقيت الذي جرى فيه التصويت إذ أنه أتى قبل يومين من الذكرى الواحدة والسبعين للثورة الجزائرية ويشكل إحراجا للرئيس إيمانويل ماكرون وجهوده في استئناف الحوار مع الجزائر خصوصا بعد مغادرة وزير الداخلية السابق برونو روتايو للحكومة وهو الذي يعتبر من أشد المنتقدين للحكومة الجزائرية.
ماضٍ يسمّم الحاضر وقد يحدّد المستقبل
يشدّد الرئيس عبد المجيد تبون ، دائما، على أن المسألة بالنسبة للجزائر “رمزية تتعلق بالكرامة والسيادة”، وأن بلاده “لن تنساق وراء استفزازات سياسية داخلية فرنسية” وفق تعبيره. في المقابل، ترى أطراف في الضفة الأخرى من المتوسط أن النظام الجزائري يستخدم مسألة الذاكرة لتسجيل نقاط وتحقيق مآرب أخرى.
ويعتبر نزار مقني، أن كل نقاش حول الهجرة أو التأشيرات أو حتى التعاون الأمني بين الجزائر وفرنسا، هو في جوهره “نقاش حول الماضي المقنّع بلغة الحاضر.”
أكثر من سبعة عقود مرت على اندلاع الثورة الجزائرية وبعد 63 عاما على الاستقلال ولا يزال التوتر يطبع العلاقات مع باريس ما يعكس صعوبة طيّ صفحة تاريخٍ أسقط حكومات وكان سببا في ميلاد الجمهورية الخامسة عام 1958 كما أنه ساهم في إحداث تغيير عميق للمجتمع الفرنسي بحسب المؤرخ الفرنسي بنجامين ستورا.















