في خضم التحديات الاقتصادية والسياسية التي تواجهها إيران، كشف تقرير حديث لمعهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي (INSS) عن آلية معقدة تعتمدها طهران للتحايل على العقوبات الدولية، محولة قطاع الطيران المدني إلى جزء حيوي من استراتيجيتها العسكرية والاقتصادية. لم يعد الأمر مجرد قطاع نقل، بل بنية تحتية سرية لتمويل الوكلاء الإقليميين وتأمين موارد ضرورية، في ظل اقتصاد موازٍ يعمل بتخفي. هذا التقرير يلقي الضوء على كيفية قدرة إيران على الاستمرار رغم القيود المفروضة عليها، ويطرح تساؤلات حول فعالية هذه العقوبات في تحقيق أهدافها.

كيف تتلاعب إيران بنظام العقوبات عبر الطيران المدني؟

يكشف التقرير أن إيران، على الرغم من مواجهتها واحدة من أشد العقوبات صرامة في العالم، نجحت في بناء نظام متقن يتجاوز القيود المفروضة عليها. يعتمد هذا النظام على شبكة من الشركات المسجلة في دول ذات قوانين شفافة بشكل محدود، وهياكل ملكية معقدة، ومسارات طيران دقيقة ومُعدّة بعناية. هذه المسارات تتضمن حتى “هبوطًا اضطراريًا وهميًا” يسمح للطائرات بدخول الأراضي الإيرانية بشكل غير قانوني.

هذه الممارسات تعكس اتساع نطاق الاقتصاد الموازي داخل إيران، وهو الاقتصاد الذي يزدهر خارج إطار الرقابة الرسمية. ويوضح التقرير أن هذا التحايل المنهجي على العقوبات لم يعد مجرد حالات فردية، بل أصبح جزءًا لا يتجزأ من السياسة الإيرانية.

الطيران الإيراني: من خدمة مدنية إلى أداة أمنية واقتصادية

لطالما عانى قطاع الطيران الإيراني من صعوبات في الحصول على الطائرات وقطع الغيار بسبب العقوبات. ومع ذلك، يظهر التقرير أن هذا القطاع لم يستسلم، بل تحول إلى “جزء مركزي من الإستراتيجية الاقتصادية والأمنية للنظام الإيراني”.

دعم العمليات اللوجستية والتمويل السري

لم يقتصر دور الطيران على الحفاظ على حركة النقل الجوي الداخلية والخارجية، بل امتد ليشمل توفير غطاء لنقل الأسلحة والمواد اللوجستية إلى حلفاء طهران في المنطقة. يشير التقرير إلى أن هذا الدعم يشمل حزب الله في لبنان، والميليشيات العراقية، وحتى شحنات إلى السودان وفنزويلا تتضمن طائرات مسيرة وأسلحة أخرى.

بالإضافة إلى ذلك، يُستخدم قطاع الطيران للالتفاف على العقوبات المالية المفروضة على إيران، من خلال تسهيل نقل الأموال والتجهيزات إلى الوكلاء الإقليميين. هذه العمليات تعتمد على شبكات سرية ضمن “مناطق قانونية رمادية” تُصعّب عملية الكشف عنها من قبل الأجهزة الرقابية.

تأثير العقوبات على الأسطول الإيراني والحلول البديلة

يهدف تطبيق العقوبات الغربية على قطاع الطيران الإيراني بشكل أساسي إلى منع وصول التكنولوجيا ذات الاستخدام المزدوج إلى البرامج العسكرية والأمنية الإيرانية. ويُعتبر هذا النهج من بين أكثر الأدوات فعالية للضغط على طهران.

ومع ذلك، يوضح التقرير أن العقوبات، خاصة الأمريكية، اتسمت بالصرامة الشديدة، حيث تحظر بيع أو تأجير أو صيانة الطائرات والمكونات لإيران، حتى من خلال وسطاء. كما أن قاعدة “الحد الأدنى” وقاعدة “المنتج الأجنبي المباشر” توسّعان نطاق الرقابة ليشملان أي منتج يعتمد على مكونات أو تكنولوجيا أمريكية.

ونتيجة لهذه العقوبات، يعاني الأسطول الإيراني من تدهور كبير. تشير التقديرات إلى أن 60% من الطائرات المدنية خارج الخدمة بحلول عام 2025، وأن متوسط عمر الأسطول وصل إلى 28 عامًا، وهو أكثر من ضعف المتوسط العالمي. لمواجهة هذا النقص، تضطر شركات الطيران الإيرانية إلى تفكيك الطائرات المعطلة لاستخدامها كمصدر لقطع الغيار، في ظل غياب خدمات الصيانة الدولية والتأمين.

“سناب باك” والعقوبات الجديدة: هل تغير المعادلة؟

في سبتمبر الماضي، أعاد مجلس الأمن تفعيل آلية “سناب باك”، وهي آلية العودة التلقائية للعقوبات المفروضة على إيران بموجب الاتفاق النووي لعام 2015. جاء هذا القرار بعد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي في عام 2018، وتجديد العقوبات، ثم قرار الدول الأوروبية الثلاث بتفعيل الآلية بعد رصد خروقات نووية إيرانية.

لكن التقرير يستبعد أن يؤدي هذا التطور إلى تغيير جوهري في قدرة إيران على التحايل على العقوبات الجوية. فقد خلقت العقوبات الثانوية الأمريكية بالفعل رادعًا قويًا للشركات العالمية، مما دفعها إلى الامتناع عن التعامل مع السوق الإيرانية حتى قبل إعادة تفعيل العقوبات الأممية.

شبكة معقدة من التهريب والشركات الوهمية

يعرض التقرير خريطة مفصلة لعمليات شراء وتهريب الطائرات إلى إيران، موضحًا أن هذه العمليات تشمل دولًا تتعاون بشكل مباشر مع طهران، مثل روسيا والصين. كما أنها تتم عبر شركات واجهة في دول ذات قوانين تجارية غير شفافة، مثل غامبيا ومدغشقر وكينيا وجنوب أفريقيا وناميبيا وكمبوديا وميانمار وأوكرانيا وطاجيكستان ومنغوليا.

تعتمد هذه الآلية على سلسلة مراحل متتالية تتضمن تسجيل الطائرة في شركة مدنية، ثم إعادة تسجيلها تجاريًا في دولة ثالثة، ثم القيام برحلة جوية مُصممة للمرور فوق المجال الجوي الإيراني، قبل الإعلان عن “عطل طارئ” وتنفيذ هبوط داخل الأراضي الإيرانية.

“نشاط الانفجار”: تقنية لتجنب الرقابة

يشير التقرير إلى أن عمليات نقل الطائرات تتم غالبًا بسرعة فائقة لإتمام الصفقات قبل أن تتمكن الجهات الرقابية من رصدها. تُعرف هذه التقنية باسم “نشاط الانفجار”.

استقلالية الصناعة الإيرانية: حقيقة أم وهم؟

صرح رئيس منظمة الطيران المدني الإيرانية، حسين بورفرزانه، في مايو 2025 بأن صناعة الطيران الإيرانية حققت الاستقلال وقادرة على تجاوز العقوبات. لكن الدراسة ترى أن هذا التصريح يتعارض مع الواقع العملي، الذي يشير إلى تدهور قدرات الأسطول وصعوبات كبيرة في الالتزام بالمعايير الفنية، بالإضافة إلى الاعتماد شبه الكامل على شبكات التهريب للحفاظ على القدرة التشغيلية المتبقية.

الخلاصة: تحدٍ مستمر للسياسة الغربية

يخلص معهد دراسات الأمن القومي إلى أن قطاع الطيران أصبح جزءًا بنيويًا من سياسة إيران الخارجية، حيث يُستخدم لدعم العمليات العسكرية السرية ونقل الأموال والتجهيزات إلى الوكلاء الإقليميين وتقديم غطاء اقتصادي يعزز صمود النظام.

إن قدرة إيران على التحايل على العقوبات الجوية تمثل تحديًا كبيرًا للجهود الغربية الرامية إلى إخضاع برنامجها النووي والصاروخي للرقابة. كما أن الاقتصاد الإيراني يُظهر قدرة ملحوظة على بناء شبكات ظل مالية وتجارية تمتد عبر قارات متعددة.

من المرجح أن يستمر هذا النظام الموازي في العمل حتى في ظل عودة العقوبات الدولية، وذلك لأن البنية التحتية التي أنشأتها إيران لم تعد تعتمد على منفذ واحد، بل على شبكة عالمية مترابطة تجمع بين الدولة والسوق والقطاع السري، مع غياب القدرة الفعلية على تطبيق العقوبات بشكل كامل على هذه الشبكات المعقدة. لمزيد من التفاصيل، يمكن الرجوع إلى الملاحق التفصيلية في التقرير التي توفر جداول بمسارات الطائرات وقائمة بالشركات الوهمية المستخدمة في عمليات التهريب.

شاركها.
اترك تعليقاً