في ظلّ تصاعد التوترات في الأراضي الفلسطينية، أعلنت منظمة “عيمك شفيه” الإسرائيلية عن قرار مثير للجدل بمصادرة أراضٍ فلسطينية واسعة قرب مدينة سبسطية التاريخية. هذا القرار، الذي يثير مخاوف كبيرة بشأن التراث الثقافي الفلسطيني وحقوق السكان المحليين، يهدد بتقويض صمود المجتمع المحلي وتقييد وصوله إلى أراضيه الزراعية. يركز هذا المقال على تفاصيل القرار، السياق الأثري للموقع، والردود الفلسطينية لمواجهة هذا التحدي، مع تسليط الضوء على أهمية سبسطية الأثرية والحفاظ عليها.
مصادرة الأراضي في سبسطية: إدانة وتصعيد إسرائيلي
أدانت منظمة “عيمك شفيه” الإسرائيلية بشدة مصادرة ما يقرب من 500 فدان من الأراضي الفلسطينية المحيطة بموقع سبسطية الأثري. وأشارت المنظمة إلى أن هذه المصادرة ستؤثر بشكل مباشر على حياة الفلسطينيين، حيث سيفقدون الوصول إلى أراضيهم الزراعية، بما في ذلك حوالي ثلاثة آلاف شجرة زيتون قديمة. يعبر هذا الإجراء عن تصعيد مقلق في السياسات الإسرائيلية التي تستهدف الأراضي الفلسطينية.
الإشارة إلى المصادرة جاءت عبر إشعار رسمي نشرته الإدارة المدنية الإسرائيلية (كوغات) في 12 نوفمبر، مبررةً ذلك بضرورة “حفظ الموقع وتطويره”. بيد أن هذا التبرير يثير تساؤلات حول النوايا الحقيقية وراء هذا الإجراء، خاصةً في ظل الخطط المتزامنة لبناء طريق إسرائيلي منفصل، وإقامة سياج حول الموقع، وفرض رسوم دخول.
الأهمية الأثرية والتاريخية لسبسطية
سبسطية الأثرية ليست مجرد موقع أثري، بل هي شاهد حي على آلاف السنين من التاريخ والحضارات المتعاقبة. يعود تاريخ الموقع إلى العصر الحديدي، وازدهر في العصر الروماني والبيزنطي والإسلامي. تضم سبسطية بقايا معبد أغسطس، والمسرح الروماني، والكنيسة البيزنطية، وغيرها من الآثار التي تجعلها جوهرة ثقافية فريدة.
تزايد الاهتمام الإسرائيلي بالمنطقة
شهد الموقع تزايداً ملحوظاً في الاهتمام الإسرائيلي منذ عام 2023، بدأت بخطة تطوير مركزة على الموقع نفسه، ثم توسعت لتشمل الاستيلاء على قمة التل الذي يمثل أساس سبسطية.
صحيفة “هآرتس” كشفت أن أمر المصادرة يشمل 1800 دونم، مما يجعلها أكبر عملية الاستيلاء على الأراضي في الضفة الغربية منذ عام 1985، عندما تم مصادرة 286 دونمًا في موقع سوسيا، مما أدى إلى طرد السكان. بالإضافة إلى ذلك، خصصت وزارة التراث الإسرائيلية 30 مليون شيكل في مايو 2023 لتمويل أعمال الحفر والتطوير، بما في ذلك بناء طريق التفافي يتجنب المرور بالقرية الفلسطينية المجاورة. هذا يشير إلى رغبة واضحة في تغيير الطابع الديموغرافي للمنطقة وتقييد الوصول الفلسطيني.
الردود الفلسطينية: حماية التراث الثقافي
القرار الإسرائيلي لم يمرّ مرور الكرام، إذ أثار ردود فعل غاضبة على المستويات الفلسطينية المختلفة. وزير السياحة والآثار الفلسطيني، هاني الحايك، أعلن عن بدء الإعداد لملف ترشيح سبسطية لإدراجها على قائمة التراث العالمي لليونسكو. جاء هذا الإعلان خلال زيارة تفقدية للبلدة برفقة محافظ نابلس غسان دغلس، مؤكدًا أن الموقع يمثل جزءًا لا يتجزأ من الإرث الإنساني العالمي ولا يمكن المساس به.
الحايك أكد أن الوزارة ستتابع هذا “التطور الخطير” من خلال اتخاذ خطوات قانونية ودبلوماسية لحماية الموروث الثقافي من عمليات الضم والنهب التي تستهدف طمس الهوية الفلسطينية. وبالتزامن مع ذلك، يتم التأكيد على التعاون الوثيق مع المجتمع المحلي والمؤسسات الوطنية لتعزيز صمودهم وحماية حقوقهم.
من جانبه، شدد محافظ نابلس غسان دغلس على أهمية توحيد الجهود لحماية البلدة وموقعها الأثري، وتعزيز صمود السكان المحليين في وجه هذه التحديات. رئيس البلدية محمد عازم أضاف أن الزيارة تعكس وحدة الموقف الفلسطيني في رفض القرارات الإسرائيلية التي تهدف إلى سلب الأرض والمواقع الأثرية. هذا التنسيق يعكس حرصًا فلسطينيًا على مواجهة التحديات المشتركة.
السياق الأوسع: اعتداءات مستمرة في الضفة الغربية
تأتي هذه الخطوات الإسرائيلية في سياق استمرار الاعتداءات على الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية من قبل الجيش والمستوطنين. على الرغم من دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ في قطاع غزة، إلا أن الوضع في الضفة الغربية لا يزال متوترًا للغاية، مع استمرار التهديدات والتصعيدات. التراث الثقافي الفلسطيني ليس مجرد مجموعة من الآثار، بل هو جزء أساسي من الهوية الوطنية الفلسطينية، والمساس به يمثل محاولة لتقويض هذا الحق.
ختاماً، يمثل قرار مصادرة الأراضي في سبسطية تهديدًا خطيرًا للتراث الثقافي الفلسطيني وحقوق السكان المحليين. الجهود الفلسطينية الرامية إلى إدراج الموقع على قائمة التراث العالمي لليونسكو، والتحرك القانوني والدبلوماسي، تأتي في إطار سعي حثيث لحماية هذا الإرث الحضاري من الضم والتهويد. تتطلب هذه القضية اهتمامًا دوليًا وعملًا جماعيًا لضمان الحفاظ على سبسطية الأثرية للأجيال القادمة.














