استفاق الإيرانيون صباح 13 يونيو/حزيران 2025 على صدمة غير مسبوقة في تاريخ بلادهم الحديث: إسرائيل تشن هجوما عسكريا مباشرا على الأراضي الإيرانية، وتنجح في اغتيال عدد من كبار القادة العسكريين والعلماء النوويين.
لم يكن الهجوم خاطفا فحسب، بل امتد إلى عمليات تخريب داخلية، ومحاولات تأليب الشارع الإيراني على النظام. ومع ذلك، فإن إيران -التي لم تخض حربا شاملة منذ انتهاء حربها مع العراق عام 1988- لم تستسلم للصورة الأولية للضربة، بل تحوّلت سريعا من حالة دفاعية إلى مرحلة جديدة من الردع الإستراتيجي، فرضت فيها قواعد جديدة للمواجهة مع إسرائيل، غيّرت بدورها موازين القوى في المنطقة.
ونشر مركز الجزيرة للدراسات ورقة تحليلية بعنوان “كيف أحدثت الحرب المفروضة على إيران نقلة إستراتيجية أمام إسرائيل؟” للباحث حسن أحمديان، حاول فيها الوقوف عند تحديات الحرب، والخيارات التي واجهت طهران، والاحتمالات المستقبلية بعد وضع الحرب أوزارها.
صدمة البداية وتعدد الأبعاد
الهجوم الإسرائيلي لم يكن عسكريا تقليديا فحسب؛ فإلى جانب الصواريخ والطائرات المسيّرة التي استهدفت منشآت حيوية في إيران، تم تنفيذ عمليات تخريب عبر مسيّرات تم تجميعها محليا، وفتح جبهات داخلية بمساعدة جماعات معارضة مثل “مجاهدي خلق”. حاولت تل أبيب إحداث فوضى شاملة داخل إيران على أمل تقويض النظام من الداخل.
لكن ما لم تحسبه إسرائيل جيدا هو استعادة طهران، وبسرعة لافتة، زمام القيادة والسيطرة. جاء الرد الأولي مساء اليوم نفسه بإطلاق صواريخ دقيقة استهدفت تل أبيب وحيفا، في عملية أطلق عليها “الوعد الصادق 3″. بذلك، خرجت إيران من حالة الصدمة إلى توازن تكتيكي أولي، ثم إلى إعادة تشكيل إستراتيجيتها بالكامل.
فُرضت الحرب على إيران بأبعاد ثلاثة تخللها سوء تقديرات إسرائيلية أسهمت في تدارك إيران الوضع:
- البعد العسكري: باستهداف القيادات والمنظومات والأهداف العسكرية ومنظومة القيادة والسيطرة داخل إيران وهو ما استمر دون انقطاع رغم تراجع الإنجازات الإسرائيلية مع مضي الأيام الأولی من الحرب، وانتقال إيران من خانة رد الفعل إلی الفعل.
- البعد التخريبي: باستخدام سلاح خفيف ومسيّرات استهدفت شخصيات عسكرية ونووية ومضادات جوية، واستمرت في إشغال منظومات الدفاع الجوي في الأيام التالية. واستطاعت طهران تحييد الكثير من تلك القدرات طيلة الأسبوع الأول من الحرب.
- بعد محاولة إسقاط النظام: کان الأمل في إثارة بلبلة في الشارع الإيراني وتحريكه لمواجهة النظام وضرب التماسك الاجتماعي، إلا أن التماسك الداخلي والالتفاف حول العَلَم بدا واضحا منذ اليوم الأول وازداد مع استمرار الحرب.
من “ضبط النفس” إلى “التناسب الإستراتيجي”
على مدى سنوات، اتبعت إيران سياسة “ضبط النفس” في مواجهاتها مع إسرائيل حتى في ظل ضربات موجعة طالت مصالحها وحلفاءها في المنطقة. لكن العدوان الإسرائيلي في يونيو/حزيران 2025 أجبر طهران على التخلي عن هذا النهج، والانتقال إلى ما وصفه الخبراء بـ”التناسب الإستراتيجي”، أي الرد بالمثل على الضربات من حيث الأهمية والتأثير الإستراتيجي.
استهدفت الصواريخ الإيرانية في الأيام التالية منشآت حساسة في إسرائيل، بما في ذلك مصفاة حيفا ومواقع استخباراتية تابعة للموساد، إضافة إلى مراكز أبحاث متقدمة مثل معهد وايزمان. وكان هذا التحول يعني أن إيران لم تعد تضع سقفا لتصعيدها، بل تركت لتل أبيب وواشنطن مسؤولية تحديد حجم المواجهة، مع احتفاظ طهران بحق الرد الكامل.
رد أميركي محسوب ورسالة سياسية
في 22 يونيو/حزيران الماضي، دخلت الولايات المتحدة على خط الأزمة بشن ضربة محدودة استهدفت 3 مواقع نووية إيرانية. ورغم التهويل الإعلامي المصاحب للهجوم، فإن ما كُشف عنه لاحقا أن الضربة كانت منسقة مسبقا، وأُبلغت طهران بها، مما أتاح إخلاء المواقع وتقليل الأضرار.
فهمت طهران الرسالة: لا رغبة أميركية في حرب شاملة. وظهر ذلك جليا في ردها، الذي لم يستهدف القواعد الأميركية في المنطقة مباشرة، بل نفّذت هجوما صاروخيا جديدا ضد أهداف إسرائيلية، واستخدمت صاروخ “كاسر خيبر” البعيد المدى لتوجيه ضربة رمزية إلى حيفا.
بهذه المعادلة، أصبح واضحا أن المواجهة محصورة إسرائيليا إيرانيا، وأن واشنطن لن تنجر إلى معركة شاملة رغم دعمها السياسي والعسكري لتل أبيب.
أدرك رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أن واشنطن لن تحارب عنه، وأنه أمام خيارين:
- الاستمرار في ضرب طهران وتلقي ردودها المتناسبة مع ضرباته.
- التراجع دون تحقيق أهداف حربه وقبول وقف إطلاق نار مع عدوه اللدود.
ومساء رد طهران العسكري على واشنطن واتضاح التموضع الأميركي، قررت الحكومة المصغرة لنتنياهو قبول وقف لإطلاق النار. وظهرت الموازنة الجديدة بين إيران وإسرائيل القائمة علی موازنة التهديد.
حديث المكاسب
كانت الصورة السائدة عن إيران في الدول الغربية والمنطقة قبل بدء الحرب الإسرائيلية توحي بضعف إيران وحلفائها. تغيرت تلك الصورة نتيجة 3 تطورات:
أولا: انتقلت طهران من “ضبط النفس” إلی “التناسب الإستراتيجي”، مما ترك رسم حدود المواجهة لإسرائيل والولايات المتحدة. وكانت الضربات الإيرانية تنتقي الأهداف المتناسبة مع تلك التي تستهدفها إسرائيل في إيران. تلك معادلة لم تكن قائمة قبل الحرب وفرض موازنة تهديد أجبرت إسرائيل علی القبول بوقف إطلاق النار دون تحقيق أهدافها المرجوة، وبموقف إستراتيجي أمام إيران أدنی مما كانت عليه قبل بدئها الحرب.
ثانيا: بإظهار إيران القوة والدقة في استهدافاتها للأهداف المنتقاة في إسرائيل، تراجع خطاب وسياسة واشنطن في معاداة طهران ومطالبتها بالاستسلام غير المشروط. وبنأي ترامب الولايات المتحدة عن الحرب بين الجانبين إلا بشكل غير مباشر، اتضح أن علی إسرائيل تحمل أعباء المواجهة بمفردها والأمل بتغيير موازنة التهديد مع إيران أو القبول بوقف إطلاق نار.
ثالثا: ومع تحقيق توازن التهديد ونأي واشنطن بنفسها، بدت طهران أكثر ميلا لجرّ إسرائيل لحرب استنزاف مؤلمة بدت واضحة في ضرباتها الأخيرة علی حيفا وتل أبيب وبئر السبع بصواريخ أقل عددا وأكثر فتكا.
إيرانيا، لم تكن الحرب في هذه المرحلة خيارا لو لم تُجبَر طهران علی خوضها. أتت الحرب علی إيران بالكثير من الأثقال؛ فقد خسرت عددا مهما من قادتها العسكريين وعلمائها النوويين، كما راح ضحيتها عدد كبير من المدنيين. كما خسرت طهران جزءًا مهما من قدراتها الدفاعية إثر استهدافات إسرائيلية أو عمليات تخريب داخلية.
رغم التكاليف الباهظة التي دفعتها إيران، فإن الحرب جلبت لها مكاسب إستراتيجية مهمة يمكن تلخيصها في التالي:
- تعزيز الردع الهجومي: أظهرت طهران دقة وقدرة صاروخية عالية، أجبرت إسرائيل على التراجع، وقبول وقف إطلاق النار بشروط لم تكن في مصلحتها.
- تحسين الوضع التفاوضي النووي: فشلت الضربات في إيقاف البرنامج النووي الإيراني، مما يمنح طهران أوراق قوة إضافية على طاولة التفاوض مع القوى الغربية.
- توحيد الصف الداخلي: ظهر الالتفاف الشعبي حول القيادة بوضوح، مما يمنح النظام دعما سياسيا نادرا أمام أي تسويات مستقبلية.
- اكتساب خبرة قتالية جديدة: خاضت إيران معركة ذات طابع تكنولوجي معقّد ضد خصم عالي التسليح، مما وفر لها خبرة عسكرية نوعية.
- الصمود الإستراتيجي: رغم كل الخسائر، لم تنهَر منظومات القوة الأساسية في إيران: الصواريخ، والبرنامج النووي، وشبكة الردع الإقليمية.
ما بعد الحرب.. الطريق السياسي
المرحلة القادمة ستكون حاسمة لإيران. فهي مطالبة بترجمة المكاسب العسكرية إلى إنجازات سياسية، سواء في مفاوضات الملف النووي، أو في تعزيز علاقاتها الإقليمية والدولية. بالمقابل، من المرجح أن تحاول إسرائيل عرقلة هذه الخطوات عبر الدبلوماسية، أو من خلال خروقات محتملة لوقف إطلاق النار، مما سيُبقي احتمالات التصعيد قائمة.
في هذا السياق، تبدو إستراتيجية “التناسب الإستراتيجي” التي أرستها طهران باقية كأداة ردع جديدة، تضع حدودا واضحة لأي عدوان عليها، وتُعيد رسم العلاقة مع إسرائيل، ليس فقط في ميدان المعركة، بل على مستوى معادلات الأمن الإقليمي برمته.