تعيش المجتمعات الإسلامية اليوم على وقع تحول ثقافي عميق، لا يقاس بحدة التغيرات السياسية أو الاقتصادية فحسب، بل بما يشهده الوعي الجمعي من إعادة تموضع لصور الانتماء والهوية. فبعد عقود من خفوت الخطابات القومية التقليدية، وصعود النزعات الدينية العابرة للحدود، تشهد الساحة الثقافية العربية والإسلامية ميلاد ما يمكن تسميته بـ«القوميات الحضارية»؛ حركات تستعيد الرموز والذاكرة القديمة لتؤسس انتماء جديدا يتجاوز الأطر الدينية أو القومية الكلاسيكية. هذا التحول في مفهوم الهوية يطرح تساؤلات مهمة حول مستقبل الانتماء في عالمنا المعاصر، ويستدعي فهمًا معمقًا لهذه الظاهرة الجديدة.
صعود القوميات الحضارية: إعادة تعريف الهوية
لم تعد الهوية في العالم الإسلامي محددة بالدين أو العرق أو الوطن، بل تتشكل تدريجيًا حول إطار حضاري أوسع. ففي مصر، نرى استعادة واضحة للرموز الفرعونية كجزء من الهوية الثقافية المتميزة، بينما في شمال أفريقيا، يبرز صوت «المورية» و«الأمازيغية» كإرث حضاري يسبق الإسلام والعروبة. وفي كل من العراق وسوريا، يزداد التمجيد للحضارات القديمة كالآشورية والبابلية والفينيقية. هذه الحركات ليست مجرد عودة إلى الماضي، بل هي محاولة لإعادة صياغة الحاضر والمستقبل من خلال استلهام قوة الرمز والذاكرة الجماعية.
القومية الحضارية: ليست مجرد حنين للماضي
قد يظن البعض أن هذه القوميات الحضارية مجرد شكل من أشكال الحنين الرومانسي إلى الماضي، لكنها في الواقع أكثر تعقيدًا من ذلك. كما يرى بندكت أندرسون في حديثه عن “المجتمعات المتخيلة”، فإن هذه الحركات تمثل نوعًا من السرد الجماعي الذي يستخدم الماضي كوسيلة لتخيل مستقبل مختلف. إنها ليست مجرد استعادة للرموز، بل هي إعادة تأويل لها في سياق معاصر، بهدف بناء هوية جديدة قادرة على مواجهة تحديات العولمة والتحولات الاجتماعية.
العولمة والفراغ الرمزي
صعود هذه القوميات الحضارية ليس وليد الصدفة، بل هو نتيجة مباشرة لظروف ما بعد العولمة. ففي عالم يتسم بالفردانية الرقمية والقلق الوجودي، يبحث الإنسان عن جذور وأصول تثبت هويته. العولمة، بتوجهها نحو الانفتاح الكوني، خلقت فراغًا رمزيًا سعت هذه الحركات لملئه من خلال استعادة الذاكرة الجماعية. هذا التوجه يعكس رغبة في التميز والانتماء إلى شيء أعمق وأكثر أصالة من مجرد الاستهلاك والتبعية.
صراع الرموز والهوية
القومية الحضارية ليست حركة ثقافية بريئة، بل هي حقل صراع رمزي. فالهوية هنا ليست معطى جاهزًا، بل هي نتاج تنافس بين مختلف الفاعلين الاجتماعيين الذين يسعون إلى احتكار تعريفها. المثقفون، الفنانون، الأكاديميون، والسياسيون يتنازعون على من يملك حق تفسير الذاكرة وتحديد الرموز التي تمثل الهوية. هذا الصراع يمكن أن يؤدي إلى استبعاد وإقصاء، ولكنه أيضًا يمكن أن يكون محفزًا للحوار والتعددية الثقافية.
القومية الحضارية: بحث عن الذات في زمن التحولات
إن هذه الحركات تعبر عن بحث عميق عن الذات في مرآة الذاكرة، ومقاومة رمزية لهيمنة الحاضر الذي يهدد بتذويب كل خصوصية. إنها محاولة لإعادة اكتشاف الهوية من خلال استكشاف الجذور الحضارية والتاريخية. ولكن هل هذا البحث هو استعادة لهوية مفقودة، أم ابتكار لهوية جديدة؟ هل هو انبعاث للذاكرة أم صناعة للرمز المشترك الغائب؟ هذه الأسئلة تثير جدلاً فلسفيًا حول طبيعة الهوية وعلاقتها بالماضي والحاضر والمستقبل.
من الهوية الدينية إلى الهوية الحضارية
لطالما ارتبطت الهوية في العالم الإسلامي بالدين واللغة والانتماء إلى “الأمة”. لكن مع صعود الدولة الحديثة وتراجع الخطاب الديني التقليدي، بدأت تظهر طبقة ثالثة من الانتماء: الهوية الحضارية. هذه الهوية لا تنفي الإسلام، بل تتجاوزه كإطار سياسي، لصالح رؤية ثقافية أوسع تحاول أن تدمج الدين في إرث أوسع من الزمان والمكان. هذا التحول يعكس رغبة في إعادة تأويل الإسلام ذاته ضمن منظومة رمزية أكثر شمولية.
مستقبل الهوية في العالم الإسلامي
إن صعود القوميات الحضارية في العالم الإسلامي يمثل ظاهرة معقدة ومتعددة الأوجه. إنها تعكس أزمة هوية عميقة، ولكنها أيضًا تحمل في طياتها إمكانات للتجديد والإبداع. إنها دعوة إلى إعادة التفكير في مفهوم الانتماء، وإلى بناء هوية جديدة تتجاوز الحدود الضيقة للدين والوطن، لتشمل إرثًا حضاريًا مشتركًا يربط بين مختلف المجتمعات الإسلامية.
إن التحدي يكمن في كيفية استثمار هذه القوميات الحضارية في بناء مستقبل أفضل، من خلال تعزيز الحوار والتعددية الثقافية، وتجنب الانزلاق إلى النرجسية الرمزية والانغلاق. فالهوية ليست مجرد ذاكرة مشتركة، بل هي أيضًا مشروع مستقبلي يتطلب رؤية واعية وجهودًا مشتركة. ويبقى السؤال: هل يمكن للعالم الإسلامي أن يصوغ هوية حضارية جديدة، لا تعبد الماضي ولا تنكر الحاضر، بل تخلق من الذاكرة والتاريخ معنى للإنسان في زمن بلا معنى؟ هذا هو التحدي الذي ينتظرنا جميعًا.


