تواصل الكاتبة الفلسطينية باسمة التكروري مشروعها الروائي في محاورة التاريخ الفلسطيني؛ مرة عبر حدث مفصلي في روايتها “عبور شائك” واجتياح المجنزرات الإسرائيلية رام الله يوم الثامن من مارس/آذار 2002 لإسقاط ياسر عرفات وما حدث عند حاجز قلنديا، ومرة عبر شخصية رمزية كما في رواية “الإمام” الصادرة عن داري النهضة ومرفأ. هذه المحاورات بين الذاكرة والتاريخ تشكل لبّ عملها الأدبي، وتقدم قراءة جديدة ومعاصرة لتاريخ فلسطين المعقد. تعتبر رواية الإمام إضافة مهمة للأدب الفلسطيني الذي يسعى لتوثيق الصراع والهوية.
مشروع ثلاثية روائية: استعادة تاريخ فلسطين
تنهض “الإمام” على فكرة مشروع طموح أعلنت عنه الكاتبة التكروري: ثلاثية روائية شاملة لتاريخ فلسطين، تمتد من العشرينيات حتى الزمن الحاضر. هذا المشروع لا يهدف فقط إلى سرد الأحداث، بل إلى الغوص في أعماق الذاكرة الجماعية الفلسطينية، وإعادة بناء التاريخ من خلال عيون شخصيات خيالية مستوحاة من الواقع. تعمل التكروري على ربط الماضي بالحاضر، لتظهر كيف أن الأحداث التاريخية تشكل الحاضر الفلسطيني وتؤثر في مساره.
الهوامش والغموض: بين السيرة والتخييل
تخبرنا الهوامش والعتبات أن الرواية مستلهمة من حياة محمد خليل التكروري، الذي اغتالته السلطات الإسرائيلية عام 1990 وهو جد الكاتبة. ومع ذلك، تشير التكروري في حواراتها إلى أنها لم تكتب سيرة ذاتية، بل استلهمت من حياة جدها لبناء أبطال روايتها، وعلى رأسهم شخصية الإمام علي النابلسي. هذا التداخل بين السيرة والتخييل يخلق نصًا روائيًا مركبًا وملتبسًا، يثير تساؤلات حول حدود الواقع والوهم، وكيف يمكن للكاتب أن يعيد تشكيل التاريخ من خلال خياله. هذا الغموض يزيد من جاذبية رواية باسمة التكروري ويجعلها مفتوحة للتأويلات المختلفة.
خطاب متعدد الأبعاد: التاريخ، السياسة، والذاكرة العائلية
تتميز “الإمام” بتداخل خطابات متعددة: التاريخي، والسياسي، والسيري، والسيرذاتي، والعائلي. هذه الخطابات تتضافر لتقديم صورة بانورامية للتاريخ الفلسطيني، مع التركيز على تأثير الصراع على حياة الأفراد والعائلات. الرواية لا تكتفي بسرد الأحداث الكبرى، بل تهتم بالتفاصيل الصغيرة، واللحظات الإنسانية، التي تجعل التاريخ أكثر حيوية وقربًا من القارئ. إن هذا التداخل يمنح العمل عمقًا فريدًا ويجعله بعيدًا عن التبسيط والتسطيح.
أولوية التخييل: بناء عالم مواز
على الرغم من الاستلهام التاريخي، تظل الرواية عملًا تخييليًا في المقام الأول. فالبرنامج السردي للعمل الروائي يتجاوز استعادة الواقعة أو الشخصية، ويهدف إلى بناء عالم تخييلي مواز لعالم الواقع. هذا العالم التخييلي يسمح للكاتبة باستكشاف الاحتمالات المختلفة، وطرح الأسئلة الصعبة، وتقديم رؤية جديدة للتاريخ. هذا التركيز على التخييل لا ينتقص من قيمة العمل التاريخية، بل يعززها، من خلال إضفاء حيوية وعاطفة على الأحداث والشخصيات.
الكتابة المشهدية: سينما في الرواية
تعتمد الكاتبة في “الإمام” بوضوح على أسلوب الكتابة المشهدية منذ البداية. تستخدم التكروري تقنيات سينمائية معروفة، مثل البناء الدائري و”الفلاش باك”، لتقديم الأحداث بطريقة مشوقة وجذابة. المشهد الافتتاحي للرواية، الذي يصور لحظة استشهاد الإمام، يعكس هذا الأسلوب السينمائي بشكل خاص. الكتابة هنا لا تصف الأحداث فحسب، بل تجعل القارئ يراها ويشعر بها وكأنه يشاهد فيلمًا.
“لم يعد المشهد أمامه صورة فقط، بل كأنما وقف هو هناك. تمددت المسافة بينه وبين العالم، وانشق الزمن بحاله أمامه، فرأى المشهد من خارج جسده الذي بقي هناك، ممددا، بلا حول ولا قوة. راقب عمامته تتدحرج بعيدا. انفجرت نافورة الدم من صدره مرة واحدة. جهز عقله ليتذكر اللحظة التي سبقت ذلك…”
هذا المقطع مثال حي على قدرة الكاتبة على رسم المشهد بدقة، واستخدام اللغة لخلق تأثير بصري قوي. هذه الكتابة المشهدية تعزز الإحساس بالواقعية وتجعل القارئ أكثر ارتباطًا بالشخصيات والأحداث.
التاريخ والتخييل: ضبط التواريخ وأصداء الواقع
تولي الكاتبة اهتمامًا خاصًا بضبط التواريخ في روايتها. قُسمت الرواية إلى فصول تحمل عناوين تشير إلى مكان الأحداث وتحدد زمنها. هذا الاهتمام بالتفاصيل التاريخية يهدف إلى الإيحاء بالواقعية وتوريط القارئ في العملية التخييلية. الرواية تتنقل بين فترات زمنية مختلفة، من نابلس في العشرينيات إلى القدس في الأربعينيات، لتعكس التغيرات التي طرأت على المجتمع الفلسطيني على مر السنين. هذا التنقل الزمني يضيف إلى تعقيد الرواية وعمقها.
شخصية ملتبسة: بين المرجعي والمتخيل
تدور الرواية حول شخصية علي النابلسي، مما يصنفها ضمن رواية الشخصية. هذه الشخصية تجمع بين العناصر المرجعية (المستوحاة من حياة جد الكاتبة) والعناصر المتخيلة. هذا الالتباس يمنح الرواية مساحة واسعة من الحرية، ويسمح للكاتبة باستكشاف جوانب مختلفة من شخصية الإمام.
طوبوغرافيا الرواية وقصة حب تحت الاحتلال
تطوف بنا الرواية في مدن فلسطينية مختلفة، وتستكشف الحياة الثقافية والاجتماعية في تلك المدن. كما تتناول الرواية قصة حب بين علي النابلسي وفتاة تدعى سلوى، لتظهر كيف أن الحب يمكن أن يزدهر حتى في ظل الظروف الصعبة. هذه القصة الحب تضفي على الرواية بعدًا إنسانيًا، وتجعلها أكثر جاذبية للقارئ.
خلاصة: محاولة جريئة لترميم الذاكرة الفلسطينية
تعتبر رواية الإمام باسمة التكروري محاولة جريئة لترميم الذاكرة الفلسطينية، وإعادة بناء التاريخ من خلال التخييل. الرواية تتميز بلغتها الشعرية، وأسلوبها المشهدي، وتداخل خطاباتها المختلفة. إنها عمل أدبي مهم يساهم في إثراء الأدب الفلسطيني، ويقدم قراءة جديدة للتاريخ الفلسطيني المعقد. الرواية تثير تساؤلات حول الهوية، والانتماء، والصراع، وتدعو القارئ إلى التفكير في مستقبل فلسطين. ويظل التساؤل قائمًا حول ما ستقدمه الأجزاء المتبقية من هذه الثلاثية الروائية.

