في الوقت الذي اعتاد فيه المستثمرون النظر إلى الذهب كملاذ أول، خرجت الفضة من الظل لتخطف الأضواء بقوة. هذا المعدن الذي يُلقب غالبا بـ”معدن الشيطان” بسبب تقلباته الحادة، سجل في 2025 قفزات تاريخية أربكت الأسواق وأعادت رسم خريطة المعادن النفيسة، مدفوعا بمزيج نادر من نقص الإمدادات واندفاع الطلب الاستثماري والصناعي. هذا الارتفاع اللافت في سعر الفضة يثير تساؤلات حول مستقبل هذا المعدن الثمين، وهل سيستمر في التفوق على الذهب كخيار استثماري مفضل.
أداء الفضة التاريخي في 2025: صعود مفاجئ
في 12 ديسمبر/كانون الأول 2025، لامس سعر الفضة مستوى قياسيا عند 64.64 دولارا للأونصة، واستمرت مسيرة الصعود ليرتفع إلى أكثر من 72 دولارا للأونصة وقت كتابة هذه السطور (24 ديسمبر/كانون الأول 2025) مسجلا أعلى مستوى له خلال العام ليكسب 147% منذ بداية العام، وفقا لوكالة رويترز. هذا الأداء يتجاوز بكثير التوقعات، حتى في ظل الظروف الاقتصادية والجيوسياسية المضطربة.
ورغم أن الذهب لمع بقوة بعدما ارتفع بأكثر من 70% منذ مطلع 2025، مدفوعا بالتوترات الجيوسياسية، وتخفيضات أسعار الفائدة الأميركية، وعمليات الشراء القوية من قبل البنوك المركزية، والطلب الاستثماري القوي، فإن بريقه بدا أقل وهجا مقارنة بما حققته الفضة من صعود استثنائي.
ما الأسباب التي تقف خلف هذا الأداء المذهل للفضة؟
كان شهر ديسمبر/كانون الأول هو المرة الثالثة فقط خلال الـ50 عاما الماضية التي بلغت فيها أسعار الفضة ذروتها. وعلى عكس موجات الاستثمار السابقة، اعتمد ازدهار الفضة في عام 2025 على مزيج من العرض المنخفض والطلب المرتفع بالإضافة إلى الاحتياجات الصناعية والتوترات العالمية. يمكن تلخيص الأسباب الرئيسية في النقاط التالية:
1. نقص الإمدادات العالمية واستمرار العجز في المعروض
تعاني سوق الفضة من عجزٍ هيكلي مستمر منذ سنوات، نتيجة الطلب القوي من القطاعات الصناعية والاستثمارية مقابل محدودية القدرة على زيادة الإنتاج. وتؤكد سوكي كوبر، المحللة في بنك ستاندرد تشارترد، أن السوق “تعاني من نقص في المعروض على مدى السنوات الخمس الماضية، مع استمرار الاضطرابات في المخزونات الإقليمية”.
2. زيادة الطلب الصناعي المتزايد
الطلب الصناعي على الفضة بات المحرك الرئيسي لنمو استهلاكها وارتفاع أسعارها، خاصة في قطاعات الإلكترونيات والألواح الشمسية. أصبحت الفضة عنصرا أساسيا في بناء مراكز بيانات الذكاء الاصطناعي وصناعة السيارات الكهربائية، وهما قطاعان شهدا نموا متسارعا، ما عزز الطلب على المعدن الأبيض.
3. الملاذ الآمن في ظل الأزمات
أدى خفض أسعار الفائدة من جانب الاحتياطي الفدرالي الأميركي، إلى جانب حالة عدم الاستقرار الاقتصادي والتوترات الجيوسياسية، إلى دفع المستثمرين نحو الفضة باعتبارها وسيلة فعالة للتحوط ضد التضخم وضعف الدولار.
4. التدفقات الاستثمارية القوية
مع ارتفاع الأسعار، سجلت المنتجات المتداولة في البورصة المدعومة بالفضة تدفقا كبيرا، حيث استقطبت أكثر من 187 مليون أونصة هذا العام، بزيادة قدرها 18% عن مستويات عام 2024.
5. الطلب القوي في الأسواق الناشئة
تُعد الهند أكبر مستهلك للفضة في العالم، حيث يتم استخدام حوالي 4 آلاف طن متري سنويا. وقد وصل الطلب على الفضة في الهند إلى ذروته في فصل الخريف، خاصة مع انتهاء موسم الرياح الموسمية وموسم الحصاد.
6. اعتراف الولايات المتحدة بأهمية الفضة الاستراتيجية
أدرجت هيئة المسح الجيولوجي الأميركية الفضة في قائمة المعادن الحيوية الحرجة لعام 2025، معتبرة إياها ضرورية للاقتصاد والأمن القومي. وقد أدى ذلك إلى تراكم كميات كبيرة من الفضة في الولايات المتحدة، مما فاقم النقص وزاد من ارتفاع الأسعار.
هل هو مجرد ارتفاع مؤقت أم بداية عصر جديد للفضة؟
هذا السؤال يشغل بال الخبراء والمستثمرين. الفضة تقف عند نقطة تلاقي نادرة بين دورها كمخزن للقيمة وأهميتها المتنامية كمعدن إستراتيجي في اقتصاد المستقبل. التحول نحو الطاقة النظيفة والتقنيات الخضراء يزيد من الطلب على الفضة، مما يجعلها أكثر من مجرد “ذهب الفقراء”.
وتشير التوقعات إلى أن الطلب الصناعي العالمي على الفضة سينمو بشكل أكبر مع تسارع الطلب من قطاعات التكنولوجيا الحيوية خلال السنوات الخمس المقبلة. قطاعات مثل الطاقة الشمسية الكهروضوئية، والسيارات الكهربائية، ومراكز البيانات ستساهم في زيادة الطلب حتى عام 2030.
توقعات أسعار الفضة في 2026: هل سنشهد 100 دولار للأونصة؟
في ظل الظروف الحالية، يرى بعض المحللين أن البيئة مهيأة لارتفاع حاد في أسعار الفضة قد يدفعها إلى مستوى 100 دولار للأونصة. فيليب جيسلز، المحلل في بنك “بي إن بي باريبا”، توقع أن سعر الفضة قد يتضاعف بحلول نهاية العام المقبل.
ويشارك جيسلز هذا التفاؤل المستثمر المخضرم بيتر غرانديتش، الذي يرى أن السوق لا تزال في بدايتها، وقد نشهد أحد أكبر أسواق الصعود في التاريخ. ويعتقد غرانديتش أن العوامل الأساسية الحالية تدعم هذا السيناريو بقوة، وأن الفضة قد تتجاوز حاجز 100 دولار في المستقبل القريب.
ختاما، الفضة تقف اليوم على أعتاب مرحلة جديدة. مع استمرار الضغوط الجيوسياسية، ونقص المعروض، والتحول نحو التكنولوجيا النظيفة، يبدو مستقبل هذا المعدن الثمين واعدا للغاية. يجب على المستثمرين مراقبة هذه التطورات عن كثب، والاستعداد لاحتمال صعود كبير في أسعار الفضة في عام 2026 وما بعده.


