تتحرك تركيا بخطوات متسارعة نحو الاستثمار المباشر في حقول النفط والغاز الأميركية، في إطار خطة أوسع لإعادة هيكلة محفظتها من موارد الطاقة. هذا التحول يأتي بعد سنوات من الاعتماد الكبير على واردات الغاز الطبيعي المسال من الولايات المتحدة، ويشكل نقطة تحول استراتيجية في سياسة الطاقة التركية. يهدف هذا التوجه إلى تنويع مصادر الإمداد وتقليص الارتباط التقليدي بالغاز الروسي، بالتزامن مع طموح أنقرة بالتحول إلى مركز إقليمي ودولي لتجارة الغاز.

## استراتيجية تركيا الجديدة لتنويع مصادر الطاقة

لم تعد تركيا تكتفي بدور المستهلك، بل تسعى جاهدة لتصبح لاعباً رئيسياً في سوق الطاقة الإقليمي والدولي. هذا الطموح يتطلب تنويع مصادر الإمداد وتقليل الاعتماد على مصدر واحد، وهو ما دفع أنقرة إلى البحث عن فرص استثمارية مباشرة في حقول النفط والغاز في الولايات المتحدة. هذه الخطوة تأتي في سياق إستراتيجية متكاملة تهدف إلى تعزيز أمن الطاقة التركي وتقليل تعرضها لتقلبات الأسعار العالمية.

## التوجه التركي نحو الغاز الأميركي: شراكة متنامية

كشف وزير الطاقة والموارد الطبيعية التركي ألب أرسلان بيرقدار عن محادثات متقدمة مع كبار منتجي الطاقة في الولايات المتحدة، مثل شيفرون وإكسون موبيل، بهدف شراء حصص في مشاريع أميركية للتنقيب والإنتاج. هذا التوجه يهدف إلى بناء سلسلة قيمة متكاملة في قطاع الغاز، تبدأ من منبع الإنتاج في الولايات المتحدة وتنتهي بتلبية الطلب المحلي. من المنتظر الإعلان عن أولى الاتفاقيات الاستثمارية خلال الأسابيع المقبلة، مما يعكس سرعة وتيرة التحرك التركي في هذا المجال.

### تعزيز الشراكة الطاقية مع واشنطن

يمثل هذا الانفتاح خطوة نوعية في مسار الشراكة الطاقية المتنامية بين أنقرة وواشنطن. الولايات المتحدة أصبحت خلال السنوات الأخيرة أحد أهم موردي الغاز طويل الأجل لتركيا، حيث تجاوزت كميات العقود المبرمة 150 مليار متر مكعب منذ نهاية عام 2024. من المتوقع أن يبدأ معظم هذه العقود بالتوريد الفعلي بين عامي 2027 و2030، مما سيؤدي إلى تصاعد مكانة الولايات المتحدة كمورد رئيسي للغاز إلى تركيا.

## أرقام وإحصائيات حول واردات الغاز التركية

تشير البيانات إلى أن الغاز الأميركي بات أكثر تنافسية من الغاز الذي يصل عبر خطوط الأنابيب من روسيا وإيران، مما شجع تركيا على رفع حصته ضمن مزيج الطاقة الوطني. فقد بلغت واردات تركيا من الغاز المسال 5.2 مليون طن منذ مطلع عام 2025، مقارنة بـ3.98 مليون طن خلال عام 2024 بأكمله. وتستعد تركيا لاستقبال 1500 شحنة من الغاز الأميركي خلال السنوات العشر إلى الخمس عشرة المقبلة، في إطار عقود مرتبطة بمؤشر “هنري هب” الأميركي، مما يعزز استقرار الأسعار على المدى الطويل.

## تقليص الاعتماد على الغاز الروسي والإيراني

بالتوازي مع هذا التحول نحو الغاز الأميركي، شهد الاعتماد التركي على الغاز الروسي تراجعاً ملحوظاً إلى أقل من 40%، بعد أن كان يتجاوز 50% قبل سنوات قليلة. وقد تم تمديد عقود استيراد 22 مليار متر مكعب لمدة عام واحد فقط. كما تواصل أنقرة مباحثاتها مع طهران لتجديد عقد توريد يبلغ 10 مليارات متر مكعب وينتهي منتصف عام 2026، إلى جانب بحث رفع كميات الغاز التركماني التي تمر عبر الأراضي الإيرانية.

### اتفاقيات جديدة مع تركمانستان

في هذا السياق، أبرمت أنقرة اتفاقاً قصير الأجل لاستيراد 1.3 مليار متر مكعب من تركمانستان عبر إيران، تم توريد نحو نصفها حتى الآن. هذه الاتفاقيات تعكس جهود تركيا لتنويع مصادر الإمداد وتقليل الاعتماد على أي مصدر واحد.

## التعاون الإقليمي: نحو مركز طاقة إقليمي

لا يقتصر طموح تركيا على تنويع مصادر الإمداد، بل يمتد ليشمل تعزيز التعاون الإقليمي في قطاع الغاز، بوصفه ركيزة أساسية ضمن خطتها للتحول إلى مركز طاقة إقليمي. وقد توسعت أنقرة في قدراتها التشغيلية عبر إضافة وحدتين عائمتين جديدتين للتخزين وإعادة التغييز، ليصل عدد المرافئ التركية القادرة على استقبال الغاز المسال إلى 5 مرافق.

### دعم مصر والمغرب

بفضل هذه التوسعة، ترتفع القدرة الاستيعابية لتركيا إلى ما يتجاوز 50 مليار متر مكعب سنوياً، مما يتيح لها فائضاً تشغيلياً يمكنها من تقديم خدمات طاقة لدول أخرى. وتخطط أنقرة لإرسال إحدى وحداتها العائمة إلى مصر خلال أشهر الصيف لمساندة القاهرة في تغطية العجز الموسمي للغاز خلال ذروة استهلاك الكهرباء. كما تخوض تركيا مباحثات مع المغرب بهدف ترتيبات مشابهة تسمح للرباط باستئجار وحدة تركية لإعادة التغييز.

## فرص ومخاطر الاستثمار في الغاز الأميركي

يرى المحلل الاقتصادي شكري جوفان أن توسع تركيا في عقود الغاز الأميركي يحمل مزيجاً من الفرص والمخاطر. قد يزيد الضغط على ميزان المدفوعات في المدى القصير بسبب ارتفاع فاتورة الاستيراد وربط التسعير بالدولار، لكنه يتيح في المقابل بناء آلية تحوط من خلال الاستثمارات المباشرة في قطاع الإنتاج الأميركي. كما أن نجاح تركيا في لعب دور مركز إقليمي لإعادة التصدير قد يحول جزءاً من وارداتها إلى إيرادات خدمات وعبور.

## تحديات التحول إلى مركز إقليمي للغاز

ترى الباحثة في شؤون الطاقة جيران بيلتكين أن تركيا تمتلك جزءاً مهماً من مقومات التحول إلى مركز إقليمي للغاز، لكن الطريق نحو هذا الهدف لا يزال محفوفاً بتحديات تقنية وتنظيمية وجيوسياسية. من أبرز هذه التحديات غياب سوق غاز محررة بالكامل، وسيطرة شركة بوتاش على سلاسل التوريد والتوزيع، والحاجة لإطار تنظيمي مستقل يضمن الشفافية.

في الختام، يمثل التوجه التركي نحو الاستثمار المباشر في حقول الغاز الأميركية خطوة استراتيجية نحو تحقيق أمن الطاقة وتنويع مصادر الإمداد. ومع ذلك، يتطلب تحقيق هذا الهدف التغلب على العديد من التحديات التقنية والتنظيمية والجيوسياسية. نجاح تركيا في هذا المسعى سيعزز مكانتها كلاعب رئيسي في سوق الطاقة الإقليمي والدولي، ويساهم في تحقيق طموحها بالتحول إلى مركز إقليمي لتجارة الغاز.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version