في أعماق التاريخ الكاميروني، تكمن قصص مؤلمة عن صراعات من أجل الاستقلال، وقمع وحشي، وصمت رسمي طويل. تكشف مجلة “لوبوان” الفرنسية عن واحدة من أكثر هذه الصفحات دموية وتعتيماً، بالعودة إلى شهادات حية من ضحايا وشهود على الحرب القذرة التي خاضتها فرنسا لقمع الحركة الاستقلالية في الكاميرون خلال الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي. هذه الحرب، التي أسفرت عن مقتل عشرات الآلاف، لا تزال جروحها غائرة في الذاكرة الجماعية الكاميرونية.

جذور الصراع: الكاميرون في قبضة الاستعمار

بعد الحرب العالمية الثانية، بدأت بذور الحركات الاستقلالية تنمو في جميع أنحاء أفريقيا، ولم يكن الكاميرون استثناءً. تأسس حزب اتحاد شعوب الكاميرون (UPC) ليقود النضال من أجل الاستقلال، لكن طموحاته سرعان ما اصطدمت بالمصالح الفرنسية القوية. فرنسا، التي كانت تعتبر الكاميرون جزءًا من إمبراطوريتها الاستعمارية، لم تكن مستعدة للتخلي عن سيطرتها بسهولة.

شهادات من الذاكرة: قصص الناجين من القمع

التقرير الذي نشرته “لوبوان” يعتمد بشكل كبير على شهادة البروفيسور تيتاني إيكوي، أحد آخر الشهود الأحياء على تلك الفترة المظلمة. نشأ إيكوي داخل ثكنة عسكرية في منطقة باميليكي، حيث كان والده يخدم في الجيش الفرنسي. شاهد الطفل، بعينيه، الاعتقالات والتعذيب والإعدامات السرية التي كانت تستهدف مناضلي حزب الاتحاد.

شلالات ميتشي: مقبرة جماعية غير معلنة

تعتبر شلالات ميتشي رمزًا مأساويًا للقمع الفرنسي. في ليلة الثامن إلى التاسع من مايو عام 1957، شهد إيكوي إلقاء عشرات السجناء الاستقلاليين، وهم مقيدون، في الشلالات. من بين هؤلاء كان جاكوب فوسي، المعروف باسم نيكوديم، وهو شخصية بارزة في حركة الاستقلال.

يروي إيكوي قصة مؤثرة عن صداقة إعجاب نشأت بينه وبين فوسي من وراء نافذة السجن. قبل أن يهوي فوسي في الشلالات، أمسك بقائد الدرك الفرنسي أوتارد وجره معه إلى الهاوية، في عمل بطولي يرويه إيكوي بعد 68 عامًا. على الرغم من ذلك، تشير الأرشيفات الفرنسية إلى وفاة أوتارد غرقًا في عام 1959، متجاهلة تفاصيل هذه الحادثة المروعة.

لا أحد يعرف على وجه اليقين عدد الضحايا الذين ألقي بهم في شلالات ميتشي، لكنها لا تزال تعتبر مقبرة جماعية غير معلنة، شاهدة على فظائع الحرب القذرة. حتى اليوم، يتذكر السكان المحليون أن الشلالات “ابتلعت عشرات، بل مئات الجثث، وابتلعت معها ذاكرتهم”.

استمرار الإرث الاستعماري: صمت حول الماضي

على الرغم من إعلان استقلال الكاميرون عام 1960، إلا أن القمع لم يتوقف تمامًا. واصل نظام الرئيس أحمدو أهيجو، بدعم فرنسي، السياسات القمعية نفسها. واغتيل أو أُعدم العديد من قادة الحركة الاستقلالية، مثل روبين أوم نييوب، فيليكس مومييه، وإرنست وواندي.

يثير التقرير مفارقة مؤلمة: بينما يتم تكريم أبطال الاستقلال بصمت، يحتفى ببعض المتعاونين مع الاستعمار عبر تماثيل وأسماء مدن. هذا يعكس استمرار النظام السياسي الموروث عن الحقبة الاستعمارية، وتجاهلًا للذاكرة التاريخية الحقيقية. الحديث عن الاستعمار الفرنسي في الكاميرون لا يزال موضوعًا حساسًا ومثيرًا للجدل.

محاولات متأخرة لكشف الحقيقة

في السنوات الأخيرة، بدأت فرنسا في اتخاذ خطوات متواضعة نحو الاعتراف بمسؤوليتها عن الفظائع التي ارتكبت خلال فترة الاستعمار. في عام 2022، طلب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون فتح ملف الحرب الاستعمارية في الكاميرون.

تشكلت لجنة مشتركة فرنسية كاميرونية، وأصدرت تقريرًا في يناير 2025 يدعو فرنسا إلى الاعتراف بمسؤوليتها المباشرة عن القتل والقمع الممنهج. هذه خطوة متأخرة، لكنها قد تمثل بداية لمواجهة تاريخ ظل مطمورًا لعقود. الاعتراف بهذه الحقائق التاريخية هو جزء أساسي من عملية المصالحة وبناء مستقبل أفضل للكاميرون. كما أن فهم تاريخ الكاميرون بشكل كامل يتطلب مواجهة هذه الحقائق المؤلمة.

نحو مستقبل قائم على الذاكرة والعدالة

إن الكشف عن تفاصيل الحرب القذرة في الكاميرون، من خلال شهادات الناجين والوثائق التاريخية، يمثل خطوة حاسمة نحو تحقيق العدالة والاعتراف بضحايا القمع. يجب على فرنسا أن تتحمل مسؤوليتها الكاملة عن الأفعال التي ارتكبتها خلال فترة الاستعمار، وأن تعمل مع الكاميرون على بناء مستقبل قائم على الاحترام المتبادل والتعاون.

إن تذكر الماضي، مهما كان مؤلمًا، هو السبيل الوحيد لضمان عدم تكرار أخطائه، وبناء مجتمع أكثر عدلاً وإنصافًا. هذا التقرير يمثل دعوة قوية لإعادة كتابة تاريخ الكاميرون، وإعطاء صوت لأولئك الذين صمتوا لسنوات طويلة.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version